وصمة عار

25-02-2008

وصمة عار

وماذا تفعل أرواحنا المعتقلة€؟ داخل الأقفاص أو ضمن المكاتب€؟ أو بين ثنايا لغة الإيلاف والتكرار€؟ غير أن تصدر طنينها الأجوف€؟ وثؤباءَ عجزها القاتل€.
ربما ليس هناك كلام أبلغ من هذه القصيدة للشاعر عماد جنيدي للتعبير عن شعور يخالجنا لدى قراءة النداء الذي وجهه عبر جريدة تشرين الثلاثاء الماضي الأديب والشاعر والمذيع السابق «سهيل خليل» الممدد على فراشه إلى الجميع, وليس الأدباء والفنانين فقط, بل جميع أهل الساحل للوقوف مع صديقه الشاعر «عماد جنيدي» الممدد أيضاً في فراش المرض.
في العدد ذاته من جريدة «تشرين», علق «عادل حديدي» على النداء بمقال طويل, قال فيه «لعل غالبية الذين يتعاطون الثقافة والأدب على ساحتنا الراهنة لا يعرفون من هو عماد جنيدي, أو في أحسن أحوالهم, قد سمعوا بعض الطراطيش المنفرة عنه, كما أنهم لا يذكرون ذاك الوسيم والفاره سهيل خليل الذي كان يطل عبر شاشتنا, يوم لم يكن سواها يقدم نشرات الأخبار وبعض البرامج الأخرى, ولن أسترسل في تعداد مواهبه الأخرى كالفن التشكيلي والخط وكتابة الشعر والخواطر الوجدانية الشعرية».
في اليوم ذاته, صادف أن التقيتُ الصديق الشاعر محمد عضيمة, فحدثني عن شاعر مدينة جبلة عماد جنيدي العبثي الذي دأب على إلقاء الشعر للبحر والشمس... وفي الكراجات, وأن ما من شاعر أو أديب في مدينة جبلة والساحل إلا ومرّ على عماد. واستنكر عضيمة تجاهل الوسط الثقافي لشاعر أخلص للشعر ولأفكاره, معتبرا أنه مثقف حقيقي, بل نموذج للمثقف المعارض والذي كان بإمكانه أن يصل إلى مواقع مهمة في السلطة في فترة من الفترات, لكنه فضل العودة إلى مدينته الساحلية ليمضي حياته ككائن بري حر متسكعاً في الشوارع, يعيش الشعر ويشرب العرق, ويتصرف كما يحلو له دون أي اعتبارات للمجاملات الاجتماعية أو الثقافية. وأيا كانت شخصية هذا الشاعر وما تحمله من تصرفات «منفرة» برأي البعض, هل يستحق من الوسط الثقافي وأبناء مدينته من المثقفين, كل هذا التهميش؟ يتساءل عضيمة باستغراب, حتى مهرجان جبلة الثقافي الذي استضاف خلال دورات ثلاث شعراء ومثقفين سوريين وعرب, لم يتذكر عماد, ولم يوجه إليه أي دعوة... ساحباً مدينة جبلة من تحت أقدامه ومعجلا بتدهور حالته الصحية.
أمام هذه الشهادات الثلاث, وبعد قراءة شعر جنيدي الذي يعتبر واحداً من أهم الشعراء السوريين والعرب المعاصرين, لا شك في أننا سنصاب بالإحباط, فما معنى أو جدوى أن يكون المرء مخلصا وصادقا مع ذاته وإبداعه, إذا كانت النتيجة ستأتي على هذا النحو المخزي؟!
ثم هل يمكن أن يلام عديمو الموهبة وأنصاف المبدعين على سباق التسلق الشاق من أجل الحصول على موطئ قدم في الساحة الثقافية المحلية والعربية, حتى لو كانت على حساب غيرهم من الموهوبين الحقيقيين؟ بلا شك لا يمكن لومهم, فقد بات من المتعارف عليه, أن تسلق مثقف, أي مثقف سواء أكان نص نص, أو كامل الدسم هو تسلق حلال زلال, طالما أن عاقبة الأصلاء النسيان والإهمال في مجتمعات كمجتمعاتنا لم توفر من جحودها وظلمها حتى الأنبياء, فمن الأفضل أن يتقدم البدلاء, ليحصلوا على ما يمكنهم تحصيله وأزود مما يستحقونه, ليس لستر آخرتهم فقط, وإنما للتنعم بكماليات الدنيا كغيرهم من الناس.
الدعوات التي وجهها أصدقاء جنيدي لاحتضان إبداعه, ترسم وصمة عار على جبهة مؤسساتنا الثقافية التي لم تعطه من الاهتمام, ولو ربع ما أعطت لبعض مجايليه, فعماد لا يقل إبداعاً عن محمد الماغوط وممدوح عدوان وسعد الله ونوس وغيرهم, وهو الذي لم يعد يطمح لشيء سوى أن تسعفه أختاه في مساعدته على كتابة الشعر الذي مازال يؤرقه, بعد أن فقد القدرة على الإمساك بالقلم, كما لم تفكر مؤسساتنا الغراء €هيئة الكتاب مثلاً€ بطباعة دواوينه ومسرحياته المكدسة, وتركته يرسل بعضها إلى دور نشر خاصة, لينتظر أكثر من ثلاث سنوات, ريثما يأتي دوره والذي قد لا يأتي أبداً ضمن أرتال الأجيال الجديدة من الشعراء والكتاب.
وصمة عار, تدمغ جبين الحياة الثقافية السورية, إذ تعاقب شاعرا موهوبا ومرهفا على تمرده بالإقصاء والإلغاء, بدل أن تتفهم خصوصيته الناشزة وتصدرها كحالة شعرية خاصة, نتعلم منها كما سبق وتعلم الغرب مع مبدعيه غريبي الأطوار. بالعكس, يخشى من ذكر اسمه, ولا يقدم النقاد الأشاوس على دراسة شعره, بل وهناك من يتحاشون زيارته كي لا تخدش كلماته المفاجأة حياء زائفاً, بات جزءاً أساسياً من «برستيج» مثقفي الصالونات الجدد, الذين لا يحتملون شخصية فظة في صدقها كعماد جنيدي.
عماد جنيدي لمن لا يعرفه, شاعر عبثي حقيقي في زمن صارت فيه الثقافة تجارة رابحة, ولم يعد العبث من علامات المثقف. سقى الله أيام الثورات والتمرد, أيام كان الأديب والشاعر والرسام يتصنعون الصعلكة ويتباهون بالشعر المشعث والملابس الرثة وارتياد الحانات في الأحياء الفقيرة... حينها كان الرصيف ملهماً فذاً للقصيدة والقصة والرواية واللوحة. نقول, سقى الله تلك الأيام, ونحن نرى الرواد الجدد وهم أشبه بالمحافظين الجدد, قد تزينوا وتعطروا وخرجوا إلى بارات خمس نجوم يتصيدون المديح والمجاملات الكاذبة, يستعرضون طولهم الشاعري وعدتهم من الرياء, ويرسمون ملامح أكثر بهجة للثقافة... ثقافة «الدراهم كالمراهم», ثقافة لا يعنيها عماد جنيدي, ولا يهمها سماع أنات سهيل خليل وغيرهم كثر, نجهلهم أو نتجاهلهم... لقد صاروا جزءاً من ماض يسرنا نسيانه, كي لا نرى إلى أي حضيض وصلنا...
معه حق جنيدي حين يقول :
صرت الآن أدرك€كم أنا طفل وواهم €«ودون كيشوت»€خاصة... حين راهنت€
على أمة€لا تتقن إلا الصراخ€...
يا عماد لست أنت الممدد في الفراش, بل نحن وثقافتنا المريضة. ولا تسألني, ماذا تفعل أرواحنا المعتقلة داخل الأقفاص, هل لديها سوى الصراخ؟

سعاد جروس

المصدر: الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...