مغاربة حتى الموت

01-06-2006

مغاربة حتى الموت

من المؤكد أن الظاهرة الغنائية <الفاحشة> ليست حصرية في بلد الاربعين مليون نسمة، لكن للمغرب نكهته الخاصة في هذا المجال؛ حيث يغرق الشباب في إحياء شعبية هامشية، مختنقة ب: العنف، البطالة، والمخدّرات. كلمات يعتبرها هؤلاء <اللغة الاقرب الى عكس الصورة الحقيقية لواقعهم، والوسيلة المثلى <المُموّلة> لثورتهم على ما يعتبرونه نفاقاً اجتماعياً، وتابوهات تُكبّل المجتمع التقليدي>. هذه اللغة في اندماجها مع الانماط الموسيقية المذكورة كفيلة في رأي هؤلاء الشباب بأن تصرخ في وجه الفقر والرشوة والدعارة والسجن.
الاحتجاج من جهة على اشكال التعبير <غير المحتشمة> التي يتبنّاها الشباب، واحتجاج هؤلاء الشباب، من جهة أخرى، على واقع مجتمعي وسياسي <مُنافق> في رأيهم، يزداد بروزاً عندما يتخذ النقاش طابعاً أخلاقياً دينياً، حيث يصير الخطاب الديني خطاباً وقائياً استباقياً في وجه أشكال تعبيرية شبابية جديدة، تحاول من خلال توظيفها لمعجم الشارع فضح <سكيزوفرينيا> الثقافة الموسيقية المغربية التي تحلّق بعيداً عن الواقع وقذارته.
موسيقى الشياطين
هذا الارتباط الديني بالموسيقى برز أول الأمر في المغرب مع قضية ما عُرف ب<موسيقى الشياطين>، حين تمّت مطاردة مجموعة من الشباب اعتمدوا في طريقة غنائهم ولباسهم وحياتهم أسلوباً اعتبره البعض <شيطانياً> يفتح الباب على تغريب وإفراغ الثقافة الاسلامية من محتواها، مع اختلاف اصحاب التحليل الديني في ما بينهم حول جواز الغناء والموسيقى او بطلانهما. وقد سُجّلت في هذا الإطار مطاردة الشاب المعروف ب<مومو> الذي استطاع بعد انتهاء حملة المطاردة الأمنية والإعلامية، وسلسلة المحاكمات والقضايا، وتدخّل المجتمع المدني والفاعلين، ان يساهم في تأسيس مهرجان <بولفار>، الذي يُعدّ اكبر مهرجان يجمع الموسيقيين الشباب في مدينة الدار البيضاء، ليس على اساس الشهرة والصيت بل على اساس القدرة على الابداع والتنافس بين هؤلاء الشباب... ومن بين المهرجانات الاخرى التي أثارت ضجة إعلامية اتخذت نفس الطابع الديني، مهرجان Friendship Fest او مهرجان الروك الذي يُقام كل سنة في مدينة مراكش، ويحضره موسيقيون من مختلف أنحاء العالم، خصوصاً اميركا. هذا المهرجان الذي اعتبرته احدى الصحف <باباً مفتوحاً في المغرب، يُسهل على دعاة التنصير التسلّل إلى عقول الشباب المغربي بسهولة، باعتبار أن المهرجان اختار أغاني تتحدّث على السيد المسيح.
اللافت في الأمر أن هذه المهرجانات التي يتمّ الهجوم عليها من منطلقات دينية، او حتى سياسية، تلقى، كلما ازداد الهجوم عليها، شرعية اكبر وسط الشباب المغربي، وهذا ما يؤكد المثل القائل بأن <كل ما هو ممنوع مرغوب>، والدليل هو في التزايد المطرد لأعداد الشباب المشارك او المتتبع لهذه المهرجانات.
البعض يُفسر هذا الامر ب<رد فعل من طرف الشباب على الخطابين السياسي والديني، اللذين لم يستطيعا خلال عقود طويلة أن يجدا حلولاً واقعية لمشاكله المتراكمة وهذا ما دفع بهذه الشريحة المجتمعية المهمة بسحب ثقتها مما هو ممارسة سياسية، وانصرافها اما الى تبني خطاب ديني متطرف، او البحث عن أنماط تعبيرية جديدة تمرر من خلالها قلقها، إحباطها، وآمالها، بعد ان سدت في وجوهها أبواب الشغل والرخاء الاجتماعي والثقافي، وتتمثل هذه الانماط عالبا في الاشكال الفنية الحديثة خصوصا الرقص والموسيقى.
وهكذا بدأت فرق موسيقية بالظهور والحديث بلغة يفهمها الجميع وهي الدارجة المغربية التي كانت لا تجد مكانها تحت الشمس. وكانت البداية مع ظهور بعض الفرق مثل <عود الليل>، <هاش كاين> من مدينة مكناس، و<مسلم> من طنجة، وغيرهم. ونجد أيضاً فرقة <فناير>، أي المصابيح التقليدية، المراكشية التي أصدرت ألبومين إلى حد الآن هما <فناير> و<يروشاب>. وقد اشتهرت الفرقة بأغنيتها الساخرة <يا لمشيشة>، أو <أيتها القطة الصغيرة>، التي تنتقد فيها بعض الظواهر التي أخذت تنخر المجتمع المغربي كإدمان الشباب على الشيشة المخلوطة بالمخدرات، والدعارة. وتقول الأغنية: <علاش مابغتيش يا لمشيشة، جبت ليك كل ما حبيتي الشراب والشيشا/باركا عليك من ماكلة التشيشا، واش نت مشيشة ولا هيشا>، أي أيتها القطة الصغيرة، لقد أحضرت لك كل ما تشتهين من خمور وشيشة، فلمَ لم تأت؟ توقفي عن أكل الحساء، هل أنت قطة صغيرة أم وحش كاسر؟. هذه الثقافة الموسيقية أثرت على بعض شباب الأحياء الشعبية المغربية منذ الثمانينيات، حيث تسللت ثقافة الهيب هوب والراب الى العديد من المدن، فانطلقت الشرارة الاولى من الدار البيضاء الى طنجة مروراً بسلا، مكناس، القنطرة وبني ملال تظهر رقصات السمورف واليريك دانس والراب. ان هذه الانماط الموسيقية وانتظامها في مهرجانات تجمع اعداداً كبيرة من الشباب، محاولة موسيقية للإجابة عن الاسئلة الحارقة التي تؤرق الشباب المغربي بصورة خاصة، وهي اسئلة في صلب دوامة العولمة التي جعلت من العالم قرية صغيرة، وأشكال الاحتجاج والنقد التي يوجّهها المحافظون باسم الدين أو السياسة تبدو متعارضة وانفتاح المجتمع!
وأخيراً، بعيداً عن الضجة التي أثارها ألبوم <مغاربة حتى الموت>، يبقى الراب جنساً موسيقياً يحاول الإجابة عن الأسئلة الحارقة التي تؤرق الشباب المغربي اليوم، غير أنها أسئلة في صلب دوامة العولمة التي جعلت من العالم قرية صغيرة. فالراب يستند، في المغرب، إلى قيم المواطنة، والالتزام الاجتماعي بالنص والموسيقى والرقص خارج الأحزاب السياسية التي يسيطر عليها عجزة استلذوا السلطة وفشلوا في استمالة ممثلي مستقبل البلاد. لذلك فالعديد من هذه الفرق يدافع فنياً عن هويتها المغربية من خلال مقاربة موسيقية نوعية بدأت تفتح لها أبواب الغرب، كما أنها توظف فنها، في مساعدة أقرانها لتنبيههم بأخطار الإدمان على المخدرات، مخاطر الإيدز، أو الأمية، بالإضافة إلى أن هذه الأغاني والعروض تجلب اليوم آلاف الشباب الذين لا تعني لهم الثقافة الموسيقية الكلاسيكية شيئاً، خصوصاً وأنهم فتحوا أعينهم منذ نعومة أظافرهم على القنوات الفضائية الغربية، والانترنت، والهواتف المحمولة، أي على عالم تلعب فيه التقنيات الجديدة دور المعلم الذي يأخذ مريده من يده بعيداً عن الكتب الصفراء، ولغة الضاد ليلقي به في عراء عولمة بلا ضفاف. فإلى أين نحن سائرون؟


الدين خلدون زين

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...