قصص «كمواويل» لعلي الراعي: استعادة الزمن المفقود

13-02-2011

قصص «كمواويل» لعلي الراعي: استعادة الزمن المفقود

يرى النقاد أن الأدب مرتبط إلى حد كبير بالحراك الإنساني، أو لنقل بطبيعة الحياة البشرية، فالمسرح الشكسبيري على سبيل المثال كان استجابة طبيعية لحاجة البشر في ذلك الزمن بوصفه حياة تعرض على المسرح، وبسبب كونه وسيلة معرفية جدية ومسلية للبشر في تلك الأيام والطبيعة الروسية الباردة بلياليها المملة، جعلت الرواية الطويلة نمطاً أدبياً مرغوباً ومطلوباً حيث تؤنس وتمتع الإنسان الروسي الجالس لأشهر طويلة أمام المدافئ.

إلا أن الثورة الصناعية التي عصفت بأوروبا فرضت نمطاً أدبياً كان على تواز مع نمط حياتي جديد، وعن النمط الغذائي صارت الوجبة الغذائية السريعة تغني عن طاولة عامرة بأطايب الطعام وغدت القصة القصيرة الوجبة الأدبية السريعة التي تناسب عصراً يريد اختزال كل شيء وتلخيصه، ومع انتقال البشرية من العالم الصناعي إلى تكنولوجيا المعلومات برز نمط أدبي يختزل القصة تحت مصطلح (ق- ق- ج) وهذا النمط لاقى ترحيباً عند البعض، قابله رفض عند الكثير من الأدباء والنقاد.
 
‏ وهؤلاء يرون أن هذا النمط لن تكتب له الحياة لأنه باختصاره للحدث فهو يقتله أو يهمشه وفي الوقت ذاته يقمع المخيلة ويلغي الفضاء ولا يقيم وزناً للبعد الرابع المتمثل بالزمن، ورغم ذلك تشهد الساحة الأدبية بين الفينة والأخرى إصداراً أدبياً ملوناً بل (ق- ق- ج)، وقد يصدر قاص ما مجموعة كاملة من هذا النوع الأدبي، ومجموعة (كمواويل) للصحفي القاص علي الراعي تختلف عن التوصيفين السابقين، حيث شغلت قصص (ق- ق- ج) معظم صفحات المجموعة أما (ق-ق) فكانت على قلتها تصويراً فانتازياً لعالم مأزوم يتوق للأمان وفي كلا النمطين يستعرض القاص حالات إنسانية شتى يبدؤها بفصل: (مواويل الحب) ومنها (أزرق) حيث نجد عاشقين ينتمي كل منهما إلى عالم مختلف ويفترقان لأنهما يتناقضان في رؤيتهما للأشياء، ثم لوحة (ورق) حيث الصراع بين المتخيل (النوستالجي) والواقع المخيب (التقريري)، أما (تشكيل) فهي عن رجل ضاع أثناء بحثه عن امرأة تجمع طبع وجمال أربع نساء، وفي (شباك) امرأة وجدت نفسها في العراء لأنها فتحت كل شبابيك بيتها، أما (أمواج) فتختصر حقيقة مرة تقول: لا التقاء للأمواج إلا محطمة على صخور الشاطئ، وفي (أحذية شرقية) تسخر المرأة المغرورة من كل الرجال ثم تقرأ طالعها في لمعة حذاء رجل أدهشها، أما لوحة (تأمل) فالرجل ممتن لله مرتين مرة لأنه جمعه بحبيته، ومرة للشيطان لأنه يصر أن يظل ثالثهما، وفي (جغرافيا) الحب مع رجل مبتذل يجعل المرأة ترى نفسها عارية أمام كل الرجال، وقصة (اغتصاب) تقول ما من امرأة اغتصبت، كل النساء سعين لاغتصابهن. ‏

وفي الفصل الثاني: (مواويل الحياة) قصة (محبة) تنتصر المحبة على كل الديانات والمذاهب، وفي حكاية (شجرة) يستعين البطل بحكمة الأجداد ويصبح عنده شجرة كبيرة من الأصدقاء لكنه يتخلى عنهم حين يتذكر نصيحة جده بأنه لا بد من قطع الأغصان اليابسة كل مدة، وبعد زمن لم يبق من الشجرة إلا جذعها اليابس فيحرقه، وفي (أربع نساء) الزائرة الوحيدة لقبر الميت كانت أمه، وفي القصة القصيرة (اختناق) ثمة مدعٍ يشعر أثناء نومه بالاختناق وعندما يخرج من منزله باتجاه دار القضاء ليستعيد أرضه المغتصبة يرى جاره يصفع امرأته ويحاول خنقها، وبعد عدة خطوات تتوقف نظراته على فتاة تسير أمامه وتشعره ثيابها الملتصقة على جسمها بالاختناق، وأثناء سيره أمام الشاطئ يراها شبه عارية وفي دار القضاء وبعد النطق بالحكم لمصلحة المدعى عليه مغتصب الأرض (شيخ القبيلة)، وبعد صفعات مؤلمة يرى الفتاة عارية. ‏

الفصل الثالث: (مواويل بعيدة) وتبدأ بقصة (درب العين) وحكاية الجد المتصوف الذي كان يستغل خلو الضيعة من الرجال في فصل الصيف فيمضي أيامه متصوفاً على درب العين يحل في عتمة الليل ليتصيد حاملات الجرار وتقول آخر زوجات الجد: وكان جدك يكثر من تصوفه على تلك الدرب وفي قصة (عند صياح الديك) يربط القاص بين كثرة المقابر في قرية صغيرة وبين الويلات التي كانت تفتك بسكانها بدءاً من المرض والجوع وانتهاء بالعصملي، أما عن خلو القرية من الأطلال فالسبب يعود للعصملي (حنتر) الدجال الذي كان يكره ثلاثة أشياء، ضوء القمر وأخضر الشجر والموتى في القبور، لأن أرواح هؤلاء كانت حية فيما حول الأحياء إلى أجساد بلا أرواح، وبرأي الجدة فإن أرواح الموتى تمكنت ذات ليلة ربيعية من تحويل حنتر الدجال إلى كومة من رماد. ‏

أخيراً لا بد من القول إن الصحفي والقاص علي الراعي استطاع من خلال هذا النمط القصصي الجديد أن يرسم لنا لوحات إنسانية هاربة غنية بالمتخيل والفانتازي البعيد عن التقريرية والمباشرة وينطبق عليها تعريف البعض للقصة القصيرة جداً: هي فن اللقطة والتكثيف.

فائزة داود

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...