غسان الرفاعي: خواطر مارقة

20-12-2010

غسان الرفاعي: خواطر مارقة

-1-
كان «هنري ميللر»- وقد تجاوز حدود العفة والاحتشام- يصف الكتابة بأنها «عملية اغتصاب», وقد بقيت كتبه, حتى فترة وجيزة, ترص في الرفوف الخلفية من المكتبات, على اعتبار أنها «تخدش الحياء», إلى أن اسقط عنها التحريم, وأصبحت تباع على الأرصفة. كتب في نهاية روايته الجانحة «الربيع الأسود»: (تتمايس الألفاظ كالفتيات الطاهرات الخجلات في الحدائق والشوارع, بانتظار كاتب مبدع يعرف كيف يغتصبهن), ولكن مأساة الكاتب العربي- كما كتب طاهر بن جلون الروائي المغربي- (هو الذي يتمايس في الحدائق والشوارع, في انتظار أن تغتصبه سلطة ما, وإلا بقي بلا ملابس داخلية). ‏

-2- ‏
في السبعينيات راج «اللاانتماء» بعد أن طرحه «كولن ولسن» في كتابه الشهير, فكان صرخة ضد مراكز الإلحاق السياسي والاجتماعي والثقافي, ودعوة إلى الانعتاق والتحرر حتى من الحرية نفسها, ولكن اللاانتماء عرض الإنسان إلى الصقيع والاكتهال المبكر والوحدة, وكان لابد من مدفأة عاطفية للتخلص من الدوار, وهكذا عاد الإنسان يفتش عن «قطيع» يندس بين صفوفه, بعد أن استرقه اقتصاد السوق وعهرته البورصة المالية, ولكنه اكتشف, وفي شيء من الدهشة, أن الدفء الحقيقي لم يعد في الـ «نحن» وإنما في «الأنت» وكما قال «اندريه كلوكسمان» أحد كهنة الدكاكين الثورية الجديدة: إن السبب الحقيقي من التذمر المعاصر هو الشعور بالاضطهاد لا الشعور بالاستغلال, المستغل بفتح الغين يتضايق من وضع اقتصادي سيئ, ولكن الإنسان المضطهد يسحق في إنسانيته, وفي اعتقادي أنه لا يجوز أن نقايض الاستغلال بالاضطهاد, هذا أمر مفزع للغاية... ‏

‏ -3- ‏
هناك مهنة جديدة بدأت تحتل الصدارة في المجتمعات المتطورة, ويكاد البارعون فيها أن ينافسوا رجالات السياسة والصناعة والثقافة, مهنة «صيد الرؤوس» وتعرف على النحو التالي: مهمة صياد الرؤوس أن يسبر المجتمع أفقياً وشاقولياً بحثاً عن الكفاءات العلمية والصناعية والسياسية ومصادرتها, ومن ثم توظيفها في المؤسسة التي يعمل فيها, مستخدماً كل أساليب الإغراء, وحتى الإرهاب, وينشط هؤلاء الصيادون ومعظمهم يعمل لمصلحة الشركات الأميركية, في كل مكان, مخترقين الحواجز الجغرافية والايديولوجية, حاملين معهم شباكهم وطعومهم, حتى إذا ما عثروا على «رأس لائق» ألقوا القبض عليه واقتادوه مخفوراً إلى مؤسساتهم, غير أننا استحدثنا مهنة مضادة في ربوع بلادنا العربية, مهنة «تطفيش الرؤوس» وتعرف على النحو التالي: مهمة المطفش أن يبحث في كل مكان عن الكفاءات, حتى إذا ما عثر على «رأس لائق» وشى باسمه إلى الجهات المختصة ليصار إلى مصادرته بهدف «تدجينه», فإذا ما استعصى جرت عملية بتره أو خصيه, أو إبعاده... وهكذا تمت عملية إفراغ البلدان العربية من كل نخبها, موجة إثر موجة في عملية «تطهير سلطوي» أكثر دموية من التطهير العرقي أو الاثني, كانت كل السلطات تقيم تعارضاً بين أهل الثقة وأهل الكفاءة, ولأنها كانت بحاجة إلى أهل ثقة لترسيخ سلطانها المهتز المرتجف, وكانت تجيز مجازر أهل الكفاءة دون أي شعور بالإثم, بدعوة المحافظة على الاستقرار الاجتماعي والسياسي. ‏

كم هو موجع هذا المشهد العربي المعاصر, على نحو ما يصفه مثقف جزائري صديق. قال في ندوة أتيح لي أن أشارك فيها الأسبوع المنصرم: هل تعلمون أن الجزائر تفرغ من كل كفاءاتها وخبراتها ونخبها السياسية والاقتصادية والعلمية, في البدء كانت التصفيات بين النخب السياسية المتصارعة تحت شعار: (المجد للحزب الواحد)! ثم تطورت الأمور, وبدأت التصفيات بين أهل الثقة وأهل الكفاءة تحت شعار: الكل في خدمة الدولة الوطنية! واليوم التصفيات تنال الصفة النوعية للفرد, إذ يكفي أن تكون مثقفاً حتى تثار الشبهات حولك وتعاقب.. ‏

-4- ‏
من الأفكار الجديدة التي يطرحها الاشتراكيون الفرنسيون تأطير العلاقة المريبة والشائكة من الأخلاق والمال, وفي قناعة «أندريه غوردن», أبرز ممثلي الجيل الجديد من الاشتراكيين أنه ينبغي أن تلغى المسافة التي تفصل الاقتصاد القائم على مضاعفة الربح عن الخطاب السياسي الأخلاقي الذي يدين المال «مفسد الضمائر». يقول غوردن: لقد بقي الفكر الاشتراكي يتخوف من التعامل بجرأة مع المال, لأنه كان يحلم بعالم جديد بلا مال, ولكن فشل الشموليات الديكتاتورية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي سابقاً قد أثبت أن الفساد يعيش في الأنظمة البيوقراطية القمعية أكثر من تغلغله في البلدان التي تتعامل على أساس اقتصاد السوق ويطالب «غوردن» بوضع حد للنفاق السياسي القائم على التظاهر بالزهد واستبخاس المنفعة المادية في حين أن الاقتصاد لا يمكن أن يزدهر إلا بتشجيع الربح, والدعوة إلى جعله أساس التعامل الاقتصادي. ‏

وقد تكون أنظمتنا العربية بحاجة إلى (جواز المرور) هذا الذي يطالب به «أندريه غوردن» للتخلص من ازدواجية (العفة المزيفة) في الخطاب السياسي, والفسق الواضح في الممارسة الفعلية, ولعل هذا هو السبب الرئيس في الصراع القائم بين هذه الأنظمة وجماهيرها العريضة!. ‏

‏ -5- ‏
يتحدث «ماريو فاركاس لوزا», بعد عودته من العراق وحيث أمضى أسبوعين, تمكن خلالهما من اختراق الحصار الداعر المفروض على بلد متحضر عن مسرحية «طاعة الشيطان» لمؤلفها «أحمد هادي» المتفائل بسخرية والتي يمثلها طاقم من الشبان في الهواء الطلق بين البيوت المهدمة, والأحجار المبعثرة وشظايا القنابل الحية, «ماريو لوزا» من أكبر كتاب أميركا اللاتينية ولد في البيرو, وحصل على الجنسية الإسبانية عام 1993, بعد هزيمته في انتخابات رئاسة الجمهورية وله عدة روايات من أهمها: (المدينة والكلاب, المنزل الأخضر), وقد صدرت له هذا الشهر رواية (الفردوس: أبعد قليلاً)!. ‏

يصف «ماريو لوزا» كاتب المسرحية العراقية أنه متفائل بسخاء, ضخم الجثة باعتدال, شارك في انتفاضة الشيعة ضد صدام, وبعد الهزيمة عبر الحدود, وفر من انتقام عدي. لا يتوقف عن رواية النكات والقصص الهازلة, والعرق يتصبب من عينيه وأنفه وذقنه, يفاخر بمسرحيته التي يزعم أنها مشابهة لمسرحية عطيل لشكسبير, بديكور عراقي صرف. ‏

ويتحدث «ماريو لوزا» عن المسرحية بإعجاب: (تصور المسرحية مجتمعاً غير متجانس يخضع لقوى لا عقلانية مدمرة, وتسوده علاقات الكراهية والمنافسة اللاأخلاقية والتماسد والتنابذ والخيانات المتبادلة والنفاق) وينقل عن كاتب المسرحية قوله: إن الدور الذي يلعبه (اياغو) في المسرحية الشكسبيرية، عطيل مطابق للدور الذي لعبه رئيس الأركان العامة للجيش العراقي الذي سلم بغداد للاحتلال الأميركي دون قتال, وينقل عنه قوله أيضاً: (على الرغم من المحنة المريرة التي عاشها العراقيون فأنا واثق من أن عراقاً جديداً سوف ينهض من بين الأنقاض, عراق ينبذ العنف والتطرف والكراهية ويؤمن بالتسامح والعلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسانية.. ‏

وينهي (ماريولوزا) تحقيقه الذي ينشره على حلقات في صحيفة اللوموند الفرنسية: (سيكون كاتب المسرحية هدفاً سهلاً للنقاد من كل الملل والنحل أنهم يعيبون عليه انه كان على حق...) ‏

‏ -6- ‏
البارحة قرأت مقتطفات من مقابلة مثيرة مع الشاعر الايطالي (أوجينو مونتالي) الذي منح جائزة نوبل للآداب عام 1975 أجراها معه مراسل مجلة نيوزويك الأميركية في ميلانو فهالني ما توصل إليه الشاعر من يأس وقنوط. ‏

س: أما زلت تقرأ الشعر المعاصر؟. ‏

ج: أبداً! أعتقد أن موسم الشعر قد انتهى ، ولا أمل في موسم آخر. ‏

س: لا أمل في موسم آخر، لماذا؟ ‏

ج: لدي شعور أن الشعر يحتضر، ليس الشعر فقط، وإنما الرواية والقصة القصيرة وكل ماله علاقة بالكتابة اليوم لا يوجد أحد يقرأ بجدية بل لا يوجد أحد يتذوق الرسم أو الموسيقا بجدية كل شيء استعراض رخيص مبتذل, تجارة، صناعة وهذا هو الانتحار! ‏

س: هل أنت سعيد لأنك تعيش في هذا العصر ؟ ‏

ج: أجل أنا سعيد لأنني من هذا العصر، ولكنني تعيس لأنني شاهد على ما يجري عليه، إن الأمل ليس أكثر من ضوء خافت في نهاية نفق طويل. الطنجرة تغلي، ولكن لا أحد يعرف ما الذي يطبخ فيها ضفدعة أم شيء رائع حقاً قد لا نكون قادرين على شن حرب عالمية، ولكننا غير قادرين على أن نعيش بسلام أيضاً. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...