غسان الرفاعي : «المقاولة الثقافية» بين التفاؤل والتشاؤم

28-09-2009

غسان الرفاعي : «المقاولة الثقافية» بين التفاؤل والتشاؤم

ـ 1 ـ قد يتعذر علينا أن نعرف الأسباب الحقيقية التي جعلت الشاعر الكبير شكسبير يصف شهر أيلول بأنه شهر التفاؤل والتشاؤم معا، وكان أبطال مسرحياته يعانون ـ حسب مناخات المسرحية ـ إما من الإحباط وإما من النشوة، وكان يستحيل عليهم أن يتفاعلوا بحيادية وشفافية شعورية، ويبدو أن شهر أيلول الحالي يتناغم مع مواصفات شكسبير إذ احتضن ثلاث قمم سياسية واعدة: في البيت الأبيض لتحريك أزمة الشرق الأوسط، وفي الأمم المتحدة لتحقيق الانفراج الدولي، وفي مدينة بيتسبرغ للخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة، ولكن القمم الثلاث انتهت بالفشل، وإن قدمها الإعلام الغربي على أنها انجازات تاريخية! لقد بشرنا الرئيس الأميركي الجديد اوباما بولادة العالم الجديد القائم على التفاهم، والتعاون، واليد المفتوحة، فغمرتنا مشاعر التفاؤل والارتياح، ولكن البشرى احترقت، ولم يبق منها إلا الرماد فغمرنا التشاؤم من جديد.

ـ 2 ـ ‏

في الثامن عشر من هذا الشهر أيلول أعلن عن وفاة أرفينغ كريستول عراب تيار المحافظين الجدد في الولايات المتحدة عن عمر يناهز التاسعة والثمانين، مارس فيه المقاولة الثقافية ببراعة ونجح في تعبئة القوى اليمينية المتطرفة من أجل الاستقطاب الأحادي، وقد نعته أوكار المحافظين، وأطنبت في ذكر سجاياها وفضائله ولكن صحيفة النيويورك تايمز أفردت له مقالاً وصفته فيه بآخر تماسيح البوشية التي زرعت كراهية الولايات المتحدة في كل مكان. ‏

كان هذا المهاجر من أوروبا الشرقية خليطاً من اليسارية الطفولية والتطرف اليميني البدائي، تحدث عن سيرته الايديولوجية المتناقضة بصراحة، فكتب: كنت تروتسكيا في زمن توافرت فيه الأسباب الوجيهة لتبني التروتسكية، وكنت يسارياً فظاً حينما كانت هناك أسباب مقنعة كيما يكون الانسان يساريا، وأنا اليوم من المحافظين، لأنه توجد أسباب أكثر وجاهة لأن يكون المرء محافظاً، وأنا فخور بهذا التطور، ولكن تقلباته المتتالية قد جعلت منه محافظا استثنائيا لا يشابه الآخرين، إذ لم يكن من المصابين بعاهة الحنين إلى الماضي، مثل كل المحافظين، بل كان من أكثر المتحمسين للمستقبل والحداثة، كان يحمل على ظهره حمولته الماركسية وبضاعته اليسارية، ويفاخر بأنه ليبرالي محافظ مصفوع بالواقع يعترف بأنه شارك في الحرب العالمية الثانية واصطدم بالواقع الذي شفاه من جرثومة اليسارية ـ كما يدعي ـ إذ أصبح من المعجبين (بالمكارثية) التي ارتكبت كل الموبقات ومارست كل أنواع القمع في الولايات المتحدة في الخمسينيات. ‏

ـ 3 ـ ‏

وهرع مثقفو فرنسا الذين مازالوا يتأبطون بضاعة المحافظين الأميركيين ويجاهرون بأن العالم الجديد الذي بشر به أوباما بحماسة أول الأمر، وبفتور وتواضع الآن، بدأ يهتز، ومن المتوقع أن ينهار بسرعة، ونظموا حفل تأبين لمقاول الثقافة كريستول في اكاديمية العلوم السياسية وتباروا في امتداح شجاعته وصدق رؤيته، وقد قال دانيال فرنيه مثلاً: كان المعتقد أن يختم رحيل هذا العراب الجريء، مسيرة ما يسمى المحافظين الجدد، ولكن الأيام القادمة ستثبت بما لا يقبل الشك أن فترة تحكم أوباما بمقدرات الولايات المتحدة والغرب لن تطول، سيعود الغرب بزعامة أميركا إلى قيادة مسيرة الحضارة وسيعترف المخلصون أن كريستول كان من رواد الحضارة الحقيقية، وأن التاريخ سيخلده آجلاً أم عاجلاً.. ‏

ولم يكن برنارد هنري ليفي الانتهازي الذي ينتهز كل الفرص لاظهار ولائه لاسرائيل وللولايات المتحدة المحافظة البوشية أقل حماسة، إذ قال: لابد من أن نقيم تمثالاً لكريستول لأنه كان أكثر شجاعة منا، وأكثر ارتباطاً بالقيم الحضارية التي يؤمن بها. ‏

مرة أخرى صدقت نبوءة شكسبير: تفاءَل المؤمنون باحتمال بزوغ فجر جديد للانسانية بعد رحيل آخر مقاول ثقافي كان يعمل على ترسيخ الغثاثة السياسية، ولكن بقايا المفكرين المحافظين الشرسين اطفؤوا هذا التفاؤل في شهر أيلول. ‏

ـ 4 ـ ‏

أثارني استشهاد المعلق الأميركي النجم توماس فريدمان بتحقيق نشر على امتداد الصفحة الأولى من صحيفة نيويورك تايمز حول سرقة بنك في بغداد، يلخص -كما يزعم ـ التحدي الذي تواجهه القوات الأميركية في افغانستان والعراق، والحل الأمثل للخروج من الكارثتين: ‏

يروي التحقيق قيام حراس مسؤول عراقي كبير البودي ـ كارد بالقبض على 6 من قوات الأمن العراقية التي كانت تحرس بنكا عراقياً في بغداد، ثم قتلهم بدم بارد، ثم قامت بسرقة 3،4 ملايين دولار، عداً ونقداً ويتساءل فريدمان: هذه القصة تجعل مؤيدي الاستمرار في الحرب وضرورة بقاء القوات الأميركية يهزون رؤوسهم، ويقولون: ما الانجاز الذي حققته الولايات المتحدة بعد 6 سنوات من الاحتلال وستجعل معارضي الحرب يكررون: لقد تنبأنا بما سيحدث، وأعلمناكم لماذا لا تتعظون؟ ‏

ثم تطورت سرقة البنك في بغداد على النحو التالي: تم التعرف على الجناة بالاعتماد على شهادة شهود، وقبض على معظمهم، وبعد محاكمتهم بسرعة مذهلة حكم على 4 منهم بالإعدام، واطلق سراح واحد، وما زال البحث عن أربعة جارياً حتى الآن، واللافت أن كل المال المسروق قد تم استرداده بسرعة مذهلة. ‏

ـ 5 ـ ‏

لقد أبرز تعليق فريدمان الذي نشر في الهيرالدتريبيون الدولية في 14 أيلول عدة أفكار لا تخلو من طرافة ولا تخرج عن إطار توصيف شكسبير لما يولده شهر أيلول من تفاؤل وتشاؤم. ‏

أولاً : أبدى فريدمان إعجابه الشديد بالسرعة المذهلة التي تم فيها القبض على الجناة الذين سطوا على البنك العراقي، علماً بأن مخططي السطو هم من كبار المسؤولين العراقيين، وهذا دليل على أن الحكم في العراق أصبح أكثر شفافية، وأكثر تجرؤاً على محاسبة المسؤولين مهما كانت أهميتهم، وهذه ميزة اكتسبها العراقيون من (نظافة) الاحتلال الأميركي. ‏

ثانيا: يشابه العراقيون، في تصرفاتهم وردود أفعالهم الأطفال المفسودين الذين لا يمكن اصلاحهم إلا عن طريق الضرب، ولئن تردد المحتلون الأميركان في ممارسة العقوبة الصارمة بحق المخالفين والجناة، فإن هذا التردد هو من الأسباب الجوهرية في استمرار الفوضى، والتجرؤ على استباحة القوانين. ‏

ثالثا: كان صدام حسين يمارس القمع والعنف بلا حساب، وقد تعوّد جيل من العراقيين أن يخالفوا القوانين تحديا للسلطة القمعية، والآن وقد اختفى صدام فيجدر بالاحتلال الأميركي أن يعمل على تربية جيل جديد من العراقيين يؤمنون بالديمقراطية، وبالحرية والمساواة واحترام القوانين، للانتصار على ثقافة العنف، وعلى سلوكيات التخلف، ويقول فريدمان في تعليقه: هذا ما حققناه في العراق حتى الآن، لقد أطلقنا وبثمن باهظ للغاية، ثقافة الديمقراطية السياسية لا في العراق وحده، وإنما في العالم العربي والإسلامي، القائم على العنف والاستبداد وما فعلناه ليس بالأمر السهل التافه، ولكن تحويل ثقافة سياسية راسخة ليس وصفة يمكن تحقيقها بسرعة، إذ تتطلب وقتاً وصبراً وعناداً. ‏

رابعاً: يروي فريدمان القصة التالية: أتاني دبلوماسي أميركي في شهر حزيران الماضي كان يعمل في منطقة الأنبار وقص عليّ أن بحاراً أميركيا أتاه، ذات يوم وهو يحمل جريحاً عراقياً على ظهره، قال لي: لا يمكن أن يستمر البحارة الأميركيون في تقديم التضحيات واظهار نزاهتهم واستقامتهم إذا لم يكن هناك سياسة رسمية تدعمهم وواقع الأمر أنه لا توجد مثل هذه السياسة! ‏

ـ 6 ـ ‏

لا أدري إذا كان منطق الاستراتيجية الجديدة الذي يبشر به الرئيس اوباما تسرب إلى كبار المثقفين الأميركيين ولكن يبدو أن الحنين إلى إستراتيجية الاستفراد والتعالي ما زال يتحكم في الساحة الثقافية حتى الآن، وهذا ما يجعلنا نتأرجح بين التفاؤل والتشاؤم ليس في شهر أيلول فحسب وانما على امتداد السنة. ‏

وأتساءل وفيَّ شيء من الغضب، ما الذي يجعل كاتباً صحفياً بقامة فريدمان يعتقد أن الاستقامة في المؤسسات الرسمية العراقية هي مستوردة من سلوكيات جنود الاحتلال الذين يتصفون بأخلاقية سامية، وليس من يجهل الفضائح الشائنة التي يرتكبها هؤلاء الجنود في سجن أبو غريب، وفي المدن والقرى العراقية، من اغتصاب وسرقة وقتل وإذلال، ثم من أين هبطت فكرة عنصرية على دماغ فريدمان تدعي بأن العراقيين كالأطفال المفسودين لا يمكن تقويم سلوكهم إلا بالضرب؟ ‏

يقول روبرت فيسك المحرر النابه في صحيفة الأنديبندنت في مقال نشر في 15 أيلول الجاري: لا يمكن تصور الجرائم والتجاوزات التي يرتكبها جنود الاحتلال في العراق، تماماً، كما لا يمكن تصور جرائم إسرائيل في الأراضي الفلسطينية! ‏

لكن فريدمان يتركنا معلقين بين التفاؤل والتشاؤم في محاولة لتسويق الاستراتيجية الأميركية الجديدة، وقد يوجب علينا أن ننتظر مرور شهر أيلول بسلام قبل التأكد من أن إستراتيجية دولية جديدة قد حان قطافها في الشرق الأوسط وفي مناطق أخرى في العالم ‏.

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين


إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...