علاء الأسواني: ديموقراطية حقيقية أم مسرحية؟

03-09-2013

علاء الأسواني: ديموقراطية حقيقية أم مسرحية؟

حدث ذلك منذ بضعة أعوام، تناولتُ العشاء مع مجموعة من الأصدقاء فتعرفت الى سيدة قدمت نفسها باعتبارها خبيرة في N.G.O، وهو مصطلح يشير بالحروف الانكليزية الأولى الى عبارة «المنظمات غير الحكومية» التي نسميها نحن في مصر الجمعيات الأهلية أو منظمات المجتمع المدني.. سألت السيدة الخبيرة عن نشاطها فقالت بزهو:
أنا والحمدلله لدي من الخبرة ما يجعلني أضع مشروع الخطة لأي جمعية أهلية بطريقة صحيحة تجعل الجهة المانحة توافق على التمويل فوراً.
سألتها: وهل هذه جمعيات خيرية تعمل لرعاية الفقراء والمرضى؟
ابتسمت السيدة بثقة وقالت: هناك جمعيات خيرية طبعاً ولكن هناك جمعيات كثيرة هدفها نشر الديموقراطية ودعم التحول الديموقراطي، والجهات المانحة تهتم بها جداً وتمولها بسخاء.
ـ وما هي هذه الجهات المانحة؟
ردت قائلة:
ـ الجهات المانحة كثيرة، منها مثلا الدول الغنية مثل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وهذه الدول لديها أيضا هيئات مانحة مثل هيئة التنمية السويدية أو الاسترالية أو الأميركية، وتوجد أيضا هيئات غير حكومية تمول المجتمع المدني مثل هيئة «فورد» أو مؤسسة «فريدوم هاوس» ومؤسسات كثيرة غيرها.
قلت لها: إنني أفهم أن يكون هناك تمويل خارجي للمشروعات الخيرية مثل علاج غير القادرين وإعالة الفقراء والعاطلين ولكن تمويل جمعيات لها أهداف سياسية مثل نشر الديموقراطية يبدو لي غريباً. ألا يعدّ ذلك تدخلا في شؤون مصر وفرضاً للسيطرة الغربية عليها؟
نظرت إليّ الخبيرة باستنكار وقالت: أنت تتحدث بمنطق الستينيات. لقد تغير مفهوم سيادة الدولة، كما أن العالم أصبح قرية صغيرة. أضف الى ذلك أن تمويل المجتمع المدني أصبح أمراً عادياً ومقبولاً...
انصرفتُ من العشاء وأنا أتساءل: ما الذي يجعل حكومات الاتحاد الاوروبي أو الحكومة الاميركية تنفق ملايين الدولارات حتى يتعلم الفقراء، في أمبابة او الصعيد مثلاً، الفرقَ بين القائمة المطلقة والنسبية في الانتخابات؟ هل بلغ الحنان بالمسؤولين الغربيين الى درجة تجعلهم ينفقون ملايين الدولارات من أجل تعليم المصريين قواعد الديموقراطية؟ لقد تعلمت وعملت في الغرب سنوات وعرفت ان الثقافة الغربية منضبطة تماما في ما يخص طريقة إنفاق المال. كيف يحدث فجأة أن تصاب الحكومات الغربية بحالة من الكرم العجيب فتنفق ملايين الدولارات حتى يتعلم المصريون مبادئ الديموقراطية على حسابها؟ هناك بالتأكيد هدف لهذا التمويل الاجنبي السخي لأن الحكومات الغربية ليست جمعيات خيرية. نحن لا نتهم أحدا من أعضاء الجمعيات الأهلية التي تتلقى تمويلا، وكلهم مصريون وطنيون، بل إن مراكز حقوق الانسان والمراكز الحقوقية قد قامت بدور عظيم في الدفاع عن حقوق المواطن المصري وكشف الانتهاكات والجرائم التي اقترفها النظام المستبد قبل وبعد الثورة. نقدُنا إذن ليس موجها اطلاقا الى أصدقائنا في الجمعيات الاهلية والمراكز الحقوقية. نحن هنا نناقش المبدأ. نفهم أن أصحاب القلوب الرحيمة يساعدون الفقراء والمرضى في كل انحاء العالم، ولكن لماذا تمول الحكومات الغربية جمعيات مصرية بغرض دعم الديموقراطية؟ وكيف نصدق حرص الحكومات الغربية على تطبيق الديموقراطية في مصر وهي التي دعمت كل الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي؟ ولماذا يحتاج النضال من أجل الديموقراطية الى تمويل أجنبي أساساً؟ في تاريخنا الحديث نماذج رائعة لحركات وأحزاب قامت بدور وطني عظيم بدون الحاجة الى تمويل أجنبي. لقد ناضل حزب «الوفد» ضد استبداد الملك وقاوم الاحتلال البريطاني على مدى عقود بغير أن يتلقى جنيهاً واحداً من الدعم الخارجي وكذلك فعلت حركة «كفاية» التي كانت أول من واجهت استبداد مبارك وطالبت برحيله، والجمعية الوطنية للتغيير التي مهدت لثورة «يناير»، وحملة «تمرد» التي التف حولها الشعب كله من اجل إسقاط حكم «الاخوان». كل هذه الحركات الوطنية اعتمدت على التمويل الذاتي ولم تتلق جنيهاً واحداً من الخارج.. النضال من أجل الديموقراطية لا يحتاج الى تمويل أجنبي، وهذا المال الذي ينهمر على منظمات المجتمع المدني بغزارة ليس الا نوعاً من المال السياسي الذي يربط مصالح النشطاء بتوجهات الحكومة الغربية. لا يوجد تمويل في العالم بلا شروط، وهذه الشروط قد تكون مكتوبة، وغالباً ما تكون مفهومة ضمناً. بصراحة اذا كنت تعمل في منظمة للمجتمع المدني وتتلقى تمويلا من الحكومة الاميركية فهل تستطيع ان تخالف توجهات الحكومة التي تمولك؟ إن التمويل الأجنبي الذي يتدفق على مصر يؤدي فيها دوراً سياسياً لمصلحة الحكومات المانحة. هذه حقيقة لا يمكن إنكارها. السؤال: لماذا سكتت الحكومات المصرية على التمويل الاجنبي فلم تمنعه أو تجرمه بل اكتفت بمراقبته. الحق ان النظام المصري قد خضع لابتزاز الحكومات الغربية التي تدافع عن التمويل الأجنبي بضراوة وتعتبر أي مساس به اعتداء على الديموقراطية وحقوق الانسان. وهكذا نجح الغرب على مدى عقود في ترسيخ هذا المفهوم المنحرف واعتباره شيئاً عادياً ومقبولاً: أن تدفع حكومات وهيئات غربية ملايين الدولارات لمواطنين مصريين حتى يؤدوا دورا سياسيا محددا في بلادهم. الغريب أن التمويل الأجنبي ممنوع تماما في الدول الغربية ذاتها، التبرعات التي تحصل عليها الجمعيات الاسلامية الخيرية في الولايات المتحدة وأوروبا تتم مراقبتها بصرامة حتى تتأكد الدولة أنها تنفق بالكامل في أعمال الخير ولا تستعمل من أجل أغراض سياسية. لقد أذاعت وسائل الاعلام أكثر من مرة أن النائب العام يحقق في أن بعض مرشحي الرئاسة في العام الماضي قد تلقوا دعما ماليا من دول أجنبية. لكن الأمر توقف عند هذا الحد فلم يعرف المصريون من هم المرشحون الممولون ومن موّلهم.. يقتضينا الإنصاف أن نذكر حقيقتين: أولا أن شباب الثورة الذين يعملون في منظمات تتلقى تمويلا خارجيا عددهم قليل جداً، بينما كثيرا ما تستعمل هذه القضية لتشويه ثورة «يناير» كلها، وثانياً إن التمويل الأجنبي لا يقتصر على التيار المدني وانما يمتد أيضا الى تيار الاسلام السياسي، فالأحزاب الدينية تنفق أموالا طائلة على مقراتها وحملاتها الانتخابية بغير أن نعرف مصدر هذه الأموال. بعد الثورة، شكل وزير العدل الأسبق المستشار محمد الجندي لجنة قضائية للتحقيق في تمويل منظمات المجتمع المدني والجمعيات الاسلامية وكانت النتيجة مدهشة. فقد اكتشفت اللجنة ان احدى الجمعيات الاسلامية تلقت مبلغ 296 مليون جنيه من دولتين خليجيتين في شهر واحد، وبسؤال المسؤولين في الجمعية أكدوا أنهم انفقوا 30 مليون جنيه من أجل اعالة الأيتام بينما قالوا انهم أنفقوا بقية المبلغ (266 مليون جنيه) فيما أسموه «أغراضاً تنموية مختلفة». الأمر الذي يثير الشكوك حول استعمال هذه المبالغ في دعم الأحزاب الدينية. على الجانب الآخر اكتشفت اللجنة أن جمعية واحدة لدعم الديموقراطية تلقت وحدها مبلغ 522 ألف دولار، بينما تلقى مركز حقوقي واحد مبلغ 907 آلاف دولار، وتلقى مركز حقوقي آخر 245 ألف دولار. هذه مجرد أمثلة على مئات الجمعيات التي تتلقى التمويل الأجنبي، والغريب ان اللجنة القضائية قررت فجأة استبعاد الجمعيات الاسلامية من المراقبة وقصرت مراقبتها على منظمات المجتمع المدني. هذا الاستثناء للجمعيات الاسلامية من الرقابة قد يكون مفهوماً في ضوء التحالف الذي كان قائماً بين المجلس العسكري السابق و«الاخوان» والسلفيين. في النهاية أحالت اللجنة القضائية المتهمين بالتمويل الى المحاكمة الشهيرة التي تم فيها تهريب المتهمين الاجانب وصدرت الاحكام على المصريين فقط. يجب على الدولة المصرية أن تمنع التمويل الأجنبي للنشاط السياسي وتجرمه كما يحدث في كل دول العالم المحترمة. لم يعد مقبولا أن يتلقى مواطن مصري أموالا من حكومات غربية لكي يقوم بدور سياسي في مصر. إن النضال الوطني لا يحتاج الى تمويل وإنما يقوم على التطوع والتبرع من أبناء الشعب. واذا قيل إن هذه المنظمات تحتاج الى مصروفات لكي تؤدي وظيفتها فلماذا لا تطلب المساعدة من رجال الأعمال المصريين بدلا من الحكومات الغربية؟ لقد نزل ملايين المصريين الى الشوارع يوم «30 يونيو» من أجل إصلاح مسار الثورة وإسقاط حكم «الاخوان» وقد استجاب الجيش وانحاز لارادة الشعب وأعلن عن خارطة طريق للتحول الديموقراطي. اذا أردنا أن نقيم دولة ديموقراطية حقيقية فيجب أن نمنع التمويل الاجنبي للنشاط السياسي بكل أشكاله ولا يجب هنا ان تخضع الدولة المصرية لابتزاز الحكومات الغربية التي تريد أن تستبقي في أيديها أدوات تؤثر بها في الواقع المصري. إننا الآن نخوض معركة من أجل استقلال القرار المصري وبالتالي لا مجال لأي ابتزاز. اذا لم نمنع التمويل الأجنبي فإن مصر ستتحول الى مسرح سياسي كبير نرى فيه الممثلين يؤدون أدوارهم على المسرح بينما هناك من يحركهم من الكواليس بأمواله.

علاء الأسواني

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...