سعاد جروس تكتب عن الألسن المقطوعة

25-11-2006

سعاد جروس تكتب عن الألسن المقطوعة

الجمل ـ سعاد جروس : في خبر لها حول زيارة وزير الخارجية السوري وليد المعلم الى بغداد, كتبت الـ CNN في موقعها باللغة العربية, «قام وزيرا خارجية البلدين المخولان من حكومتيهما بالتوقيع على هذا الإعلان باللغة العربية»!!
ترى بأي لغة كانت الـCNN تتوقع أن يكتب الإعلان المشترك لوزيري خارجية العراق وسوريا؟ هل أصبح اعتماد اللغة العربية في اتفاقيات الدول العربية أمراً يستحق الذكر في متن الأخبار السياسية €ولدى البعض يستحق التمنين€؟ ربما صحت هذه الإشارة, لو كان الإعلان المشترك بين سوريا وإقليم كوردستان, لكن بما أنه بين سوريا والعراق بأغلبيته العربية, لا بد من تعجب نافل في زمن العجائب, عادت فيه اللغة العربية الى دائرة التشكيك, وكأن مئة عام من النهوض اللغوي, كجزء من النهوض القومي محتم عليها الذهاب مع الرياح الأميركية العاصفة إلى غياهب الانتهاك الخلاقة, لا لشيء وإنما انتقاماً من عروبةٍ منيت بالمأساة مرتين, مرة حين ركبها دعاة شوفينيون ألغوا باسمها التعددية التي أغنتها وميزتها, وثانية حين جرى تجريمها وتركت نهباً للإهمال تتنازعها ألفاظ غريبة عجيبة, خنفشارية لا هي بالعربية ولا بالأعجمية ولا حتى بالعامية المحكية, لغة خاصة يفرزها عصر مرتبك يدخلنا بالمتاهة كل يوم مرات عدة, ولا ندري ما إذا كنا نخرج منها سالمين. وهذا يحتاج إلى لغة لشرح حالنا, ولغة لفهم ما يدور حولنا, ولغة لفهم ذواتنا المنفصلة عن بعضها والمتصلة بغير بعضها, بمعنى آخر نحتاج الى لغات وألسن عدة لنواكب ما يحدث على أرضنا المتفجرة من تحتنا.
حين جمعتنا مناسبة إعلامية مع مثقف أميركي, بادر مرافقه لسؤال الحضور, عما إذا كنا كسوريين ما زلنا نهتم بتعلم اللغة الإنكليزية؟ وكان يرمي من سؤاله, التعرف بشكل غير مباشر, وبلباقة لا تعوزها اللطافة عما إذا كنا بحاجة الى مترجم. وكان جوابنا: مكثنا نتعلم اللغة الإنكليزية مدفوعين بحلم السفر الى بلادكم للتعلم منكم وللتواصل معكم, لغاية اتخاذكم القرار بالمجيء الى منطقتنا والتخييم على شرفاتنا وشوارعنا وشواطئنا, واحتلال سمائنا وأرضنا وبحرنا, فلم يعد ثمة حاجة الى تعلمها, عليكم أنتم أن تتعلموا لغتنا لأنكم بحاجة الى فهمنا أكثر من حاجتنا الى فهمكم.
بقليل من التبصر, سرعان ما سوف نكتشف أن كلينا بحاجة الى لغة سواء بيننا, تشمل سائر لغات القوات الدولية وقوات حلف الناتو والأمم المتحدة, ومعهم الإرهابيين الأشرار والمعتدلين الأخيار, لغة ما تُعين الجميع على اجتياز مرحلة حوار الطرشان التي تغط فيها المنطقة بعناد وبلا فخر. لغة شوارعية لاستيعاب ما يجري في لبنان من تفجيرات واغتيالات وتهديدات وعداوات, ومسمارية لتفكيك المشهد العراقي من السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة واختفاء مليارات الدولارات, وأوغاريتية لفهم عقلية التطوير السورية, لتساعدنا على فك شيفرة الافتتاحيات الصحفية وبيانات الخارجية, وخلطة من لغة هيروغليفية مع قليل من الأمازيغية, ورشة سريانية مفلفلة بنكهات قبائلية أفريقية لإعادة ملء بيانات وقرارات العرب داخل الجامعة وخارجها بعد أن أفرغت من مضامينها وغُيبت عن الوعي, لغة لا تنسى السنسكريتية, ربما تنفع للتواصل مع بوش وإدارته ومحافظيها القدماء والجدد, والأغلب ألا تنفع مع الجدد أي لغة, ما داموا لا يعرفون ربهم حتى بالإشارة.
الخلاصة, نيو لغة: تكشف المستور, وتنعش القلب المقهور, وتقنن الدم المهدور؛ بما أن مشكلتنا بحسب التنظير الأميركي هي صدام حضارات, لتنتعش حضاراتنا القديمة ولتبعث لغاتنا الميتة حية, ولتحيا حرياتنا المشاعية بلغة بهلوانية لا يعيقها مبدأ ولا يضيرها شعار.
لغة بالتأكيد لا علاقة لها بمجمع اللغة العربية الذي نقترح تحويله الى محمية طبيعية, قبل أن تنقرض العربية, ويأتي يوم يسألنا فيه أطفالنا عن لسان الضاد فنتلعثم, ولا نجد له أثراً بين أكوام الجثث المبقورة, والأيدي المبتورة, والأرواح المقموعة. عندئذ من سيتنكب عناء البحث عن لسان الضاد بين الألسن المقطوعة؟!
 


بالاتفاق مع الكفاح العربي
 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...