رحيل المخرج الفرنسي كلود ميلر شاعر الحديقة السرّية

07-04-2012

رحيل المخرج الفرنسي كلود ميلر شاعر الحديقة السرّية

لم يشأ أن يتخلّى عن الكاميرا السينمائية أبداً. أرادها أسلوب حياة. بدا، بهذا، منسجماً ومساره الحياتي، جاعلاً الإخراج السينمائي وسيلته الوحيدة لمواجهة الدنيا. لكن المرض السرطانيّ، الذي أصابه مؤخّراً، أقوى: صباح أمس الأول الخميس، توفّي المخرج الفرنسي كلود ميلر عن سبعين عاماً، قبل خمسة عشر يوماً فقط على موعد إعلان البرمجة الرسمية للدورة الجديدة لمهرجان «كانّ»، التي يُمكن أن تتضمّن فيلمه الأخير «تيريز د.»، المقبتس عن رواية لفرانسوا مورياك. وهو، إذ اعتبر أن السينما قدره، بدأ تنفيذ فيلمه الأخير هذا بعد أشهر قليلة على إنهائه «انظروا كيف يرقصون» (2011). كأنه، بهذه الطاقة الإبداعية على العطاء، بل بشغف الاشتغال السينمائي، أراد تأكيد دائماً أنه متمتّع بقدرة على حماية أولوياته: السينما أولاً وأساساً.

نفوس كئيبة

«ابن الحرب والضاحية»، كما وُصف ذات مرّة، عاصر انبثاق فجر «الموجة الجديدة» في فرنسا، وعمل مساعداً لبعض أبرز سينمائييها (جان ـ لوك غودار وفرانسوا تروفو)، لكنه ظلّ على مسافة منها، ومهموماً بالنبرة الجمالية في كشف خفايا الذات وتمزّقاتها. «ابن الحرب والضاحية»، وُلد في باريس في العشرين من شباط 1942، من أب موظّف في صالة سينما «لو غران ريكس» في العاصمة الفرنسية، حيث تولّد لديه هذا العشق الكبير للفن السابع، وذاك الهيام بالتقاط التفاصيل المعتملة في «النفوس الكئيبة». غير أن نشأته الأولى حدثت في «مونروي»، إحدى ضواحي باريس، بعد اختبار الموت الذي واجهته العائلة الصغيرة (إنه الابن الوحيد لأبويه، علماً أنه اكتشف لاحقاً «وجود» شقيقة له لم يتحدّث عنها أحدٌ أبداً أمامه)، في ظلّ التسلّط النازي، ومطاردة اليهود. فوالده اليهوديّ «نجا» من معسكرات الاعتقال، لأنه رفض تعليق «النجمة الصفراء» التي فرضها النازيون على اليهود في أوروبا. اختبار الموت في طفولة مبكّرة، قد يكون دافعاً له إلى الهيام بـ«النفوس الكئيبة»، وبأحوال ناسها التائهين في الحيّز الفاصل بين وهم الحياة وحقيقة الموت. ولعلّ هذا الاختبار نفسه، معطوفاً على تفتّح وعيه الأول داخل صالة سينمائية، كانا الإشارة التأسيسية لبداية حياته السينمائية. طفولة أولى محاصرة بشيء من الفقر، وأجواء حرب خانقة، وبدايات الخروج من نفق الخراب الفظيع: أليست هذه كلّها أداوت تحريضية قادته إلى اختيار الطريق الصعب في إعادة تشكيل العالم، والسعي لفهم النفوس والأرواح؟ أليست هذه كلّها نواة المشروع الإنساني المتكامل، الذي أراده الشاب المتعطّش للصورة، والمهووس بسينما إنغمار برغمان وألفرد هيتشكوك؟
غير أن كلود ميلر لم يُترجم شغفه السينمائي إلى مهنة، إلاّ بعد انتسابه إلى «معهد الدراسات السينمائية العليا» في مطلع الستينيات، أي في إحدى أجمل العشريات المفصلية في التاريخ الثقافي والحياتي والإنساني، المتمثّلة بـ«ثورة 68» وتأثيراتها الجمّة في إعادة رسم ملامح جديدة لمجتمع وبلد وثقافات. ولعلّ العشرية المفصلية نفسها، بغليانها وتحوّلاتها، جعلته يتأخّر في تحقيق فيلمه الروائي الطويل الأول كمخرج إلى العام 1976 (أفضل طريقة للمشي)، مع أنه أمضى الأعوام هذه في التمرين الميداني على العمل السينمائي، باشتغاله مساعداً لعدد من مخرجي تلك المرحلة، أمثال مرسيل كارني (ثلاث غرف في مانهاتن، 1965) وميشال دوفيل (الجندي مارتن، 1966) وروبير بروسّون (بمغامرة بلتازار، 1966) وغودار (عطلة نهاية الأسبوع، 1967). أما اشتغاله مع تروفو، فتمّ عبر تسلّمه إدارة إنتاج بعض أفلامه، كـ«الإنكليزيتان والقارة» (1971)، من دون تناسي أفلامه القصيرة، التي بدأ تحقيقها منذ العام 1967.

ارتباكات

تناول فيلمه الطويل الأول مسألة العلاقة المرتبكة بين فردين، في محاولة سينمائية لفهم دلالات الارتباك والتناقض (تمثيل باتريك دوير وباتريك بوسيتي). ألحقه بفيلم ثان في العام التالي، بعنوان «قل له إني أحبّك» (تمثيل جيرار ديبارديو وميو ميو)، الغارق في رحلة الجنون القاتل لعاشق أدرك أن المرأة المعشوقة تتنصّل منه، بعد حادث سير قُتل زوجها بسببه. أي أن بدايات ميلر انطلقت من سؤال المأزق الأخلاقي والخلل الروحي، الناتجين من عمق علاقات مشوبة بالقهر والالـتباس. وإذا ارتكز فيــلمه الأول على سيناريو كتبه بمشاركة لوك بيرو، فإن فيلمه الثاني مقتبس من رواية «هذا الألم الغريب» لباتريسيا هايسميث. وفيه، أظهر ديبارديو «كل ما لديه من قوّة شعرية»، في تأديته دور عاشق مهووس «مزّقه شغفه الذي لا أمل يُرتجى منه».
في سيرته المهنية الخاصّة بأفلامه الطويلة، التي أنجزها بين العامين 1976 و2012، هناك سبعة عشر فيلماً فقط. في الثمانينيات، عرف «شعبية هائلة»، بفضل فيلمين نجحا تجارياً: «مراقب» (1981) و«تجوال مميت» (1983): الأول عبارة عن حلقة مغلقة، تضمّ مفوّضاً في الشرطة (لينو فانتورا) ومشتبهاً فيه هو كاتب عدل محترم، أدّاه ميشال سيرو بـ«حضوره الملغز والساخر» والجميل، لدرجة دفعت ميلر إلى التعاون معه مجدّداً في «تجوال مميت»، في شخصية تحرّ خاص مهووس بابنته «المجهولة».
ظلّ كلود ميلر أسير الارتباكات والتناقضات في أفلامه اللاحقة. ظلّ أميناً لما قاله ذات مرّة: «ما يثير شغفي في المسار السينمائي كامنٌ في تعلّقي بلعبة المظاهر والحركات والنظرات والسلوك، وفي محاولتي التكهّن بدواخل الكائنات البشرية، حديقتهم السرّية، بينما لا نُشاهد منهم إلاّ ما هو خارجيّ».


نديم جرجوره

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...