حنا مينه: كيف نغيّر العالم.. بأحلام المراهقة

27-11-2010

حنا مينه: كيف نغيّر العالم.. بأحلام المراهقة

أنا أيضاً كنت في الحالمين، وكان حلمي أن أغير العالم بالكلمة لا بالمقص، باعتباري، آنذاك، حلاقاً على باب ثكنة، زبائني من الجنود الفقراء، الذين يتناسب فقرهم مع فقر دكان الحلاقة، رغم أنني، في نزوة الشباب المبكر، سميت هذا الدكان «صالون الزهور»!.

وفي هذا «الصالون» العاري إلا من مرآة وكرسي الحلاقة البدائيين، كتبت أول «عمل أدبي» على شكل مسرحية أنا بطلها، وهذا البطل «الثوري الفظيع» يغير العالم في ستة أيام، ويستريح في اليوم السابع! ‏

بعد ذلك علمتني سجون الاحتلال الفرنسي لسورية، أن العالم لايتغير بالنيات الحسنة، مصاغة خربشات على الورق، وإن بداية التغيير، عن طريق الكفاح، هو إجلاء المحتل ونيل الاستقلال، وبعد الاستقلال، وفي إطاره، نشدان الغد الأفضل بإزاحة اليوم الأسوأ، المتمثل بالاقطاع الذي يحكمنا نحن عبيد الأرض، وهذه الإزاحة لاتكون، أولا تتم، بمسرحية أو قصة أو قصيدة أو لوحة فنية أو أغنية ثورية، وإنما بالكفاح، والصبر والمصابرة فيه، ودخول «السجون الوطنية» بعد أن تخرجنا من «السجون الأجنبية» ومعنا شهادات «الناس الخطرين» التي تسد في وجوهنا أبواب الرزق. ‏

الآن أنا كاتب بسيط، يؤلف حكايات رائجة، بسبب من أنها مسلية، وأنها فوق ذلك، أو قبله، مضبوطة الإيقاع، حسنة التشويق، لاتحلم بتغيير العالم، لأن هذا ليس دورها، وإنما تطرح القضايا طرحاً صحيحاً، يصوغ وجدانات الذين يعملون لتغيير هذا العالم، عن طريق البذل، والتضحية، ومقاربة النار التي تتفتح أزاهير عذاب على أناملهم. ‏

وهذا الكاتب البسيط، الذي حفظ درسه جيداً، منذ مسرحيته الأولى والأخيرة، أدركه «العقل» منذ أدركته حرفة الأدب، فلم يعد يؤمن، على شدة إيمانه، بأن كلماته ستغير العالم، وهو يستذكر، كشاهد مشفق، كم من كتّاب حسبوا أن كتاباتهم ستغير أشياء الوجود، ولأنها لم تؤد إلى ذلك، أصيبوا بالاحباط فاليأس، وتخلى بعضهم عن الكتابة كلها، ومن هؤلاء الذين صادفتهم في حياتي، كاتب غير مشهور، قال لي في الخمسينيات، حين كنت أعمل صحفياً، «لاتتعب نفسك، لا تنفخ في قربة مثقوبة، فقد كتبت سبع مقالات ثورية، إلا أن «الثورة» التي ابتغيها لم تحدث، فلا فائدة، إذن، من الكتابة، ولم أناقش صاحب هذا القول الادعائي، لأنه كان يتكلم بعصبية بالغة، ووثوق بحقيقته المطلقة، التي يرفض معها أي نقاش، ناهيك بالرأي والرأي الآخر، هذا المعتقد الذي صار يقيناً في وقتنا الراهن، ومن قبل كثرة ممن ينادون بلغة الحوار. ‏

لقد صادفت على مدى خمسين عاماً من دخولي مملكة الأدب، أنماطا وأشكالا من الكتاب والكتبة، الذين يعملون على الأجناس الأدبية كلها، يشكون، بنقيق ضفدعي، من هذه المعضلة التي اسمها تغيير العالم بالكلمة، رافضين، بإصرار، الأخذ بأي رأي، أو أية وجهة نظر، أو أي شرح، يعيدهم إلى سواء السبيل، أو يبعث فيهم الطمأنينة، على أن تأثير الكلمة في مضمونها الجيد، هو تأثير قائم وفاعل، وان هذا التأثير، في تشكل الرأي العام، يحتاج إلى عقود طويلة ليزهر ويثمر، وانه، حتى بعد إزهاره وإثماره، لا يبلغ أن يكون وحده عنصر تغيير، إذا لم يقترن بالتنظيم، وان التنظيم ليس من شأن الكاتب، بل من شأن السياسي، وكذلك العاملون في حقل السياسة، أو حقل الجمعيات والمنظمات الفكرية والسياسية، وكل زعم آخر باطل، كما هو باطل الظن أن تغيير المجتمعات، والارتقاء بها نحو الأجمل والاعدل، لايقاس بعمر القلم الرصاصي، الذي قد ينتهي، إذا ما وضع موضع العمل المتواصل، في أسبوع أو شهر، ولايقاس، أيضا بعمر الإنسان، هذا الذي لايرى في المجهر، إذا ما قيس بعمر الزمن، وانه ليس من الضروري، بالنسبة لمن يعملون لمستقبل مشرق، تتنور فيه الحرية والعدالة، أن يروا هذا المستقبل وقد تحقق في حياتهم، ففي هذا المبتغى غير قليل من الأنانية، وان الكثير من الاحباطات، وحالات اليأس تالياً، مصدره الإصرار على تحقق أحلامنا في حياتنا، لأننا بذلك نخالف بدهية ذلك المزارع البسيط، الساذج، الذي سئل يوماً: «لمن تزرع وأنت عجوز؟ فأجاب: «زرع الذين قبلنا فأكلنا، ونزرع لمن هم بعدنا فيأكلون». ‏

اذكر انه في بداية حرب تشرين 1973، أدلى الكاتب المصري المرحوم توفيق الحكيم، بتصريح وهو قابع في برجه العاجي، قال فيه: «المجال، في الحرب، للرصاصة وليس للكلمةّ» متجاهلاً أن الكلمة تصوغ وجدان صانع «الرصاصة، ومطلقها، والغاية التي يطلق لأجلها، ودون هذه الصياغة لم يكن اختراع الرصاصة، ولاوجد من يطلقها، ولا تحددت الغاية من إطلاقها: هل هي عدوانية ام ضد العدوان؟ وهل كان اختراع الرصاصة لصالح البشرية ام ضدها؟ وفي أي وضع هي للخير، وأي وضع هي للشر؟ ومتى تكون الكلمة اقوى من الرصاصة وبالعكس؟ وهل الأسبقية، في كل حال، للكلمة ام للرصاصة؟ ‏

إن الإعلام يبقى ثقافة من الثقافة، وقوام الإعلام هو الكلمة، وبها يتم التوجه إلى الشعوب، وبها، أيضا، يكون التأثير على الشعوب، في مشاعرها وضمائرها، خلال السلم والحرب، فهل نتصور إعلاماً بغير الكلمة؟ وهل ثمة من ينوب عنها في التوصيل بين المؤدي والمتلقي؟ وفي غياب الكلمة، ماذا يفعل صمت الرصاصة أو الصاروخ؟ وفي حال إطلاقهما، لابد من إنسان ينهض بهذه المهمة، وحتى في زمن ثورة المعلوماتية لابد من زر يضغط عليه إنسان، وتشكل وجدان هذا الإنسان مرجعه أولا وأخيرا، إلى الكلمة، فكيف نيأس من قدرة هذه الكلمة على التغيير، لا بذاتها بل بالآخر المصاغ تفكيره بها؟ ‏

إنما الكلمة، في مجال الإبداع، هي الإبداع، وتتوقف جلوتها على الطلاوة التي تكون لها، وبهذه الطلاوة، أو هذا الرواء، تتألق الحروف التي تكونت منها، إذا مااستخدمت الكلمة، من قبل المبدع، في المكان المناسب، المخصوص لها من النص، وفي هذا سر، وسحر، الأدب كله، وإلا بطل أن يكون أدباً، وفوق ذلك أن يكون أدباً إبداعياً. ‏

يقول القاص الصديق وليد معماري: «حين جاء (أبونا) ليكرز البيت، رشني وكتابي الذي اقرأ فيه بالماء المقدس، وحين انتبه إلى استغراقي في القراءة توقف وسألني: «آه يابني لعلك ستصبح كاتباً؟» فأجبته: «نعم ياأبانا، ألا يقول الكتاب: في البدء كانت الكلمة» جمد أبونا بالرد الذي فاجأه.. ثم عاد ليرشني بالماء المقدس.. ربما ليطرد عني الأرواح الشريرة.. بينما تابعت أنا محاولاتي لتغيير العالم بالكلمة». ‏

نعم! تغيير العالم يكون بالكلمة، بما هي صياغة وجدان المغيرين، وليس بالماء.. حتى لو كان مقدساً بصلاة أبينا! ‏


حنا مينه

المصدر: تشرين ‏

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...