حنا مينه: الرواية تجربة وحواراً

12-03-2011

حنا مينه: الرواية تجربة وحواراً

أنا لاأملك يداً سحرية تقطف النجوم، وأصابعي التي هي أغصان شجرة مرجانية منسية في قاع البحر الأحمر، لاتورق كزهرة الثلج، في الفضاء الحليبي الرحب،.

وحروفي منذورة لدمي الذي نزف في مواقع خطواتي على درب الشقاء الطويل، الشقاء الماجد والممجد، لأنه صاغني صياغة حبة الرمل، التي، في أعماق خليجنا العربي، تتحول إلى لؤلؤة في جوف محارة عندمية اللون. ‏

إنه الألم الذي باركه الفريد دي موسيه، والعشق الذي نفذ إلى سره شاعرنا المتنبي، والقلق المميت، والمحيي، الذي لازمني، في الحب كما في الكتابة، فأبقاني معلقاً في فضاء الأمل والخيبة، لكنه، القلق، تبارك ثلاثاً، جعلني اضطرب، مثل النورس في ريح العاصفة المجنونة، ومنذ وسمتني النار، في جبيني المتقد، ظلت جذوتها تشع وتخبو، بين رماد ورماد، بعضه للتوهج، للاحتراق، وبعضه للشروق فجراً، وللغروب غسقاً، وأنا أغذ السير في طريق، لاأدري أهو طويل أو يطول، لكنه، في كل حال، طريق المعاناة التي أكتويت بها، ظنا مني أنها أخيراً الدواء، فإذا بي مع الركب في تيه العمر، فلا نكوص، ولاوصول، ولا ري لظمأ السراب الذي فديته، وافتديه، دون أن أبلغه، ودون أن أملّ من الترحال في طلبه، ودون أن يمل هو من الابتعاد، كلما أحسست أنني دنوت منه. ‏

هكذا ترون، أن بعض القول لايحكى فيضمر، مع أنه ليس ثمة في حياتي المضطربة، بين رجاء وقنوط، أي اضمار، فسيرتي ورقة بيضاء وكلماتها غير المسطورة، تناديكم، ألا تتبعوني على خيط الهاجرة، أو شعب الجليد، فهناك الموت الذي ينفذ عبر المسام، ويبقى تأرجحاً بين سكرة حب، وسكرة هجر، سكرة يقظة، وسكرة احتضار، ثم لافناء، بل إحساس به يلازمني وأنا أمرق من أحداق التجارب، تجربة بعد أخرى. ‏

سأفترض أنكم قرأتموني، أو أن بعضكم، مشكوراً، قرأني، لذلك لاأفصل في معاناتي وتجاربي، وإن كنت أدعوكم، إذا ماأردتم أن تكونوا مبدعين حقيقيين، أن تتذوقوا ثمرة الخير والشر، فالشجرة المباركة التي أغرت حواء وآدم بأكل تفاحتها، قد كانت البدء، ولن تكون النهاية، فليس ثمة نهاية، أن رحلة التجارب، تنبت لكم، كل يوم، ألف عوسجة ملتهبة، وألف حسرة مدمرة، وألف إغراء بفرحة القلب، فكونوا في المجربين، وفي الغالبين، وفي الواثبين على الأذى، حتى لو لم يكن لكم من هذه الوثبة سوى إرضاء العلى، وكسب الخبرة، التي بغيرها، مدماة، مفجعة، مسندسة، مخصبة، لن تبلغوا ماتريدون من إشعال شموع الإبداع، على اسم الحرف، الكلمة، اللوحة، الإزميل، القوس، الوتر، أشكالاً للعطاء، تزهر، تثمر، حين هي منعقدة، منضفرة على وعد الإزهار والإثمار، وهما تاج الشوك وتاج الغار، ولابد لرأس المبدع أن يتوج بهما معاً، وإلا أضاع العمر في ثنايا غمامة صيف، تمطر ولاتمطر، لا لأنها عقيمة، بل لأنها لم تكتسب تجربة، تحولها إلى ماء، كما تحول، في الأعجوبة، الماء إلى خمر. ‏

مطر! مطر! مطر! هذا هو غيث السماء ومنحتها، وتجربة، تجربة، هذه نعمى الإبداع ومكافأته. إذاً جربوا، عانوا، ترحلوا، أقيموا، وبكلمة، عيشوا بين الناس وفي صفحات الكتب، فالمعرفة لاتتحصل إلا منهما معاً، ومن تلك الملاحظات الدقيقة، المتميزة، المفردة، التي تلتقطها عين واحدة، من زوايا مختلفة، وتحتفظ بها الذاكرة، وتحفظها، قولة تشيكوف، في دولاب المأكولات، فأنتم لاتعرفون متى تحتاجونها، ومتى تستيقط هي في ذواتكم المبدعة، فترتفع من قاع البئر المهجور في نفوسكم، إلى أسنة أقلامكم، التي ترسمون بها تجاربكم قصائد وقصصا وروايات. ‏

هذا مافعلته أنا. أو هذا ماأرادت لي الحياة أن أفعله، وقد ألقيت بنفسي في بحر التجارب الجائر، وماأزال هناك، أغامر، أحيا، أتألم، أبحث عن الألم لم أقف على حافة الخطر، أعيش الحياة، لأن العيش شيء جميل ياأصدقائي، كما قال ناظم حكمت، ولأنه كذلك، فقد خلق العيش لذات نفسه، فالحياة جديرة بأن نحياها كرمى لها، لاكي نذهب إليها، وفي جيوبنا فخاخ لاصطياد أجناسنا الأدبية، وأشكالنا الفنية، فهذه الطرائد تأتي تاليا. طيور التجارب تحط يوما على دوحة الذاكرة، وتبني أعشاشها بين أصابع الكف، وتنطلق في فضاءات التأمل، وتحوم في آفاق التفكير، وتنضج في دواخلنا، نضوجاً صحياً، متناغماً، وحين تكتمل عدتها من النضج والتخمر، تصبح نبيذا معتقا، نشرب منه، ونسقي الآخر، القارئ، شراباً عذباً، يتطلبه، ويبحث عنه، ويجد صورته فيه، وهمومه في خطوطه ومشكلاته في صبواته، ثم لاتجاوز في ضربات الريشة التي نرسم بها، وبالكلمات التي ننقشها، بوحا هو النجوى في قصيدة، وتوقا هو مدمى الشوق في قصة، وما لما هو الكون في رواية، ومنظراً جميلاً هو المدى اللامتناهي في لوحة، ونغما حلوا، منسابا، موحيا، هو الإيحاء في لحن ينداح نغمات إلى اتساع أبداً، وهو الطرب في أغنية تحلق بنا عالياً، وهو الدانوب الأزرق يحملنا على أجنحة النشوة كما في معزوفة شتراوس، أو فانتازيا مخملية أرجوانية كما في قوس شوبان. ‏

قلت إنني أعفيكم من تفاصيل سيرة حياتي، المعيشة والمكتوبة على السواء، فأنتم تعرفونها، أو ستعرفونها، لكنني أحذركم من محاكاتها. ليكن لكم صوتكم الخاص، وأسلوبكم المفرد، وكلمتكم المتميزة، التي تنقبون عنها، كما قال بابلونيرودا، عبر فجوة في الجليد، فعل الصياد في المياه المتجلدة، فهو يفتح ثغرة فيها، ويلقي بصنارته، وينتظر اصطياد السمكة، هذه التي هي هنا الكلمة. وكما أن الأسماك لاتلتقط طعم الصنانير بسهولة، فكذلك الكلمات لاتستجيب لطالبيها بسهولة. إنها، أحياناً، تبتعد تنأى، تحرن، تعاكس، تشاكس، وفي هذه الحال علينا أن نصبر عليها، ونصابر لأجلها، فعلى الصياد الماهر، لأنه ليس هناك إلا كلمة واحدة، لتأدية معنى واحد. ابحثوا إذاً عن هذه الكلمة، عنها بالذات وليس عن غيرها، وستجدونها، تبتكرونها، تشتقونها، تلتقطونها من صندوق الحروف، فعل عمال المطابع في الماضي، أو تضربونها على آلة التنضيد فعل المنضدين في الوقت الراهن. وعندما تتحصل الكلمات الملائمة لكم، تكونون قد أمسكتم بمفردة مبتكرة، لصورة مبتكرة، فليس أقتل للأدب من الكلمات الجاهزة، والصور الجاهزة، الرؤى المتهرئة، والأحداث المتكررة، والتشبيهات المسبوقة، والنعوت الملحوقة، وكل مايجعل القطعة الأدبية نسيجاً بساطياً عفت رسماته ونقوشه وشاهت منمنماته لفرط ماوطأتها قدم الزمان. ‏

لقد حاولت دائماً أن أكون أنا وليس غيري. أن يكون لي صوتي المتميز، وحدثي المتميز، وكلمتي المتميزة، وصورتي غير المألوفة، ومن أجل ذلك وقفت نفسي على اكتشاف المناطق المجهولة في المواضيع التي اتخذها مادة لأعمالي، ومنذ البدء كان، نداء اللجة، هذا الاسطوري الحارق، يصبح بي مندداً، أيها البحار، المنذور لقاع المحيطات ماذا صانع أنت بالبحر الذي تحب؟ ‏

ولقد سمعت نداء اللجة، وارتعدت له، واستجبت لاغوائه، ومضيت للقائه، كما يمضي الحبيب إلى لقاء حبيبه، غير هياب أو متردد، وهذا ماتجدونه في روايتي، الشراع والعاصفة حيث ينزل محمد بن زهدي الطروسي البحر في مطاوي الظلمة ليطارد العاصفة، التي كانت تطارد، بدورها البحارة فوق مركب الرحموني، هذا الذي وفى الرياسة حقها، والرجولة حقها، وقوانين اللجة الثائرة حقها أيضاً. ‏

هكذا ترون أنني مولع بما هو خارق، مشيح عما هو عادي. إنني أكره العادية. أقتلها، وأدعوكم لقتلها، فالخارق هو البرق، هو النيزك، هو حمحمة الموجة تدفع بالموجة، وفي مطاويها، تضطرب المراكب، والسفن، وحيوات الرجال، وكذلك صلواتهم وابتهالاتهم وأدعيتهم، هذه التي ينسونها وهم على الأرض، ويذكرونها وهم في البحر، والهاوية تفتح شدقيها لتبتلعهم، فتستجيب لهم السماء حيناً، وتغضي في أكثر الأحيان. ‏

اسمحوا لي، اليوم، أن أكون مجنوناً، فأنا أجهل لغة العقلاء، واسمحوا لي اليوم أن أعود بحاراً، كما كنت، فالبحار بيرق على سارية مركب، يعرف أن من يدخل البحر مفقود، ومن يخرج منه موجود، والبيرق، راية اليابسة المهداة إلى الماء تكون، هي وريس المركب، آخر من يبتلعهم اليم. ‏

دعوني، إذاً، أسألكم: هل عرفتم هذه التجربة يوماً؟ هل واجهتم الخطر، وعشتم على حافته؟ وهل المغامرة في قلوبكم، أم هي قشرة من القشور الطحلبية، أو الصدفية، التي تغلف هذه القلوب، وتحول بينها وبين أن تفنى، مرة وإلى الأبد، في مغامرة الحياة، التي تعطى لنا ذات مساء، أو ذات صباح، ويكون علينا، بعد ذلك، أن نقول لها، في لحظة الانخطاف: وداعاً! لأننا في الشجعان حيينا، وفي الشجعان متنا، وكنا على هذا النحو في الأمناء لرسالة الوجود، في جبروته، وسيرورته معاً؟ ‏

إن معاناتي، وأنا بين الهدب والهدب من الفاجعة، ليست هي المعاناة الوحيدة، المتجلية في المتبدأ والخبر من تجربتي الروائية التي أتحدث عن بعض فصولها، إليكم: سئل مكسيم غوركي وهو يعمل حمالا على نهر الفولغا: هل قرأت الاقتصاد؟ أجاب: «إنه منقوش على ظهري» وأنا أقول، لنفوسكم الكريمة: «التجارب منقوشة على جلدي» لكن التجربة مادة خام، تتطلب الصانع الماهر ليصوغ منها عقد زبرجد لعنق أبيض، ينكشف عنه فستان أسود، فيكون منه التضاد، الذي به وحده يعرف الحسن. ‏

بعد معاناة التجربة تأتي معاناة الكتابة. الحدث جاهز، إنه النطفة الإبداعية الأولى. لكن الورقة البيضاء على المكتب، مساحة افعوانية تنظر إلي أبداً بعيون باردة، مخيفة. هنا الصراع! بين الكاتب والورقة البيضاء يقوم الصراع. وحين أغلق الباب من ورائي، وأوقد شموعي، وأتطيب، غالية تعطر الدنيا بالشميم المخدر، يكون علي أن أذهب في المكتب وأجيء، كأنني عريس في ليلة دخلته، تدوي من حوله الدفوف، وتنطلق الزغاريد، وهو مشغول بهم الامتحان الصعب الذي ينتظره. إنه أمام بكارة الموجة العذراء، وعليه أن يثبت أنه فارس، أو يترجل عن حصانه الأبيض، أمام التي حلمت به طويلاً، فارسا يأتي على حصان أبيض. الورقة البيضاء عروسي، والفارس القادم على حصان أبيض هو أنا، وفي كل ليلة يتكرر الخوف، حين يتكرر الامتحان. ‏

أخيراً، وكما الفرس أمام لعبة الحواجز، أثب على موضوعي، أقارب الورقة البيضاء، وأبدأ الرسم بالكلمات، والسيكارة مشتعلة، وفنجان من القهوة يجيء، وفنجان آخر في الطريق، والسيكارة تشتعل من أختها والليل يمضي، والتوتر يشتد والسم يجري مجرى الدم في العروق، وعرق بارد على الجبين. إنها لحظة الانخطاف الرهيبة، وعلى الفارس المتعب، المثخن بجراح حراب غير مرئية أن يخرج من مستنقع الموت، أو يمضي مع الشوط حتى آخره. وقد تعلمت، بعد مران طويل، وممارسة صعبة أن أمضي مع الشوط، فلا أتوقف مع الفتكة الغادرة، بل أمعن حتى أبلغ المنطلق السهل، ولدي، بعد ما أقوله، وعندئذ أنهض عن مكتبي، والفجر يتلامح. ‏

لماذا أفعل ذلك؟ الجواب بسيط، حين يمسك القلم عن الاسترسال، في النقطة الميسرة، لايجد مشقة عند الامتحان في الليلة التالية، في استئناف استرساله، وهذا مايجعل الورقة البيضاء المخيفة، أقل إخافة، وبذلك يتكامل الخلق، بما هو الكاتب خالق أدبي، عليه أن ينمي السياق، وينمي الشخوص، وينهي الحكاية، على النحو الذي أرادته الحكاية، دون صراخ أو افتعال، فأقتل مايقتل الإبداع هو الاسقاط والتعسف والصراخ والافتعال، هذه الأمور التي أوصيت نفسي وأوصيكم، باجتنابها، لاتسقطوا أفكاركم، لاتتعسفوا في فرض حواراتكم، لاتصنعوا الكلمات التي تحمل ايديولوجيتكم على ألسنة شخوصكم القصصية والروائية. احترموا، وإلى حد التشدد، مشاعر شخصياتكم، امنحوها حياتها لاحياتكم، عبروا عن ذاتها لاعن ذواتكم، وبذلك تنفخون فيها الحياة، فتأتي من لحم ودم، لا من حبر وورق. ‏

بعد ذلك تأتي التجربة الثالثة، الأصعب بين التجارب كلها. إنها المحاكمة! أفكاركم، في القصيدة والقصة، والرواية، والمسرحية، وكل الأجناس الأدبية والفنية، توضع، بشكل ما، أمام محكمة الضمير، وهي محكمة عادلة، تنصب في الرأس، وقامتها في الصدر، والمبدع هو المتهم دائماً، والذين أبدعهم هم المتهمون دائماً، وعليه أن يحاور، وأن يحاور، وأن يسأل، ويجيب، سواء بالنسبة للذين كتب عنهم، أو بالنسبة لمن لم يكتب عنهم بعد، أي الذين ينيظرون دورهم للخروج إلى النور. ‏

أذكر أنني، ذات عام، رغبت في الهرب من ضجيج المدينة، والاستقالة من الكتابة، والإقامة كوخ ما، على الشاطئ، لأكون جار البحر. وقد بلغت رغبتي هذه سيدة، عن طريق أحد الأصدقاء، فهتفت إلي قائلة: ‏

- هل صحيح ماسمعت؟ ‏

قلت: ‏

- صحيح ياسيدتي ‏

قالت: ‏

- قصري، على البحر، تحت تصرفك، هناك يمكن أن تعمل، بهدوء ‏

قلت: ‏

- أنا لاأريد أن أعمل، أريد أن أدخل النرفانا ‏

قالت ضاحكة: ‏

- بحار ونرفانا؟ متى تقلع عن الهوى والجنون؟ ‏

قلت: ‏

- أنا أبداً باحث عن الهوى والجنون، ولكن على طريقتي. ‏

قالت: ‏

- وما هي طريقتك؟ ‏

قلت: ‏

- أن أفكر، أن أتأمل، لا أن أكتب، إذا ما ذهبت إلى قصرك الجميل اللعين ذاك ‏

قالت ضاحكة: ‏

- تفكر بماذا؟ وتتأمل ماذا أيها المجنون الطريف؟ ‏

قلت: ‏

- أنا، يا سيدتي، لست طريفاً أو مجنوناً، أنا أريد أن أنظر في داخلي، وأتأمل ما حولي. ‏

قالت: ‏

- وماذا في داخلك؟ أية عوالم غريبة تريد أن تكتشف؟ أم هذا سر؟ ‏

قلت: ‏

- نعم هو سر.. وعزلتي، في قصرك، سر، فإذا أفشيته، لن أذهب إلى هذا القصر أبداً. ‏

ولم تستطع سيدتي الجميلة أن تكتم السر وأنا مثلكم، ربما لا أحب من يفشي الأسرار، لقد أفشت سري فرفضت الذهاب إلى قصرها ورحت أبحث عن طريقة أخرى للراحة، والبعد والنسيان وقد اهتديت إلى ما كنت أنشد دون أن أخبر أحدا وفي أحد أيام الشتاء وكان شتاء قاسياً مثلجاً قصدت مصيف كسب الذي تعزله الثلوج في الشتاء عن الناس عزلاً تاماً. ‏

هناك استأجرت بيتاً ضائعاً بين الجبال، مسيجاً بالبياض، محاطاً بالثلج من جهاته الأربع وحملت معي إليه المعلبات وزجاجات الشراب، وكاسيتات ومسجلاً، واشترطت أن يكون في البيت حطب، بل كثير من الحطب، واستجاب صاحب البيت لشرطي ووعدني ألا يخبر أحداً بمكان وجودي ولا يزورني هو نفسه ولا يقطع علي خلوتي لأي شأن من الشؤون. ‏

مضى اليوم الأول على خير ما تمضي عليه أيام الانفراد بالذات شربت أكلت نعمت بالموسيقا الهادئة، وكنت في مجلسي أمام النار، ألقي في الموقد حطبة بعد أخرى وأستمتع بالسكينة تأخذني إليها، وترحل معي إلى الامداء البعيدة، حيث الجمال البعدي وحيث لا جمال إلا في البعد وكل ما هو بعيد جميل دائماً. ‏

في اليوم الثالث حدثت تلك الحادثة الرهيبة التي لا بد أن تحدث لكل مبدع يوماً وخاصة الروائي والقاص والمسرحي وكل من أعطي له أن يدخل مع مخلوقاته الأدبية في حوارات تلامحت صور في النار ثم استقرت في دماغي، شخصيات رأت الحياة أو تطالب في أن ترى الحياة ممارسة لحق طبيعي هو حقها الذي لا جدال فيه. ‏

أنتم يا سادتي رأيتم إلى المجنون وهو يهيم ويتخبط ويركض حاسباً أنه في المركز يتخلص من علته ناسياً أن علته تركض معه لأنها تسكنه ولا خلاص منها إلا بالشفاء وكما تعلمون فإن المجانين والفنانين والمحبين قلما يشفون فهم مرضى على نحو ما ومرضهم قد يكون قابلاً للشفاء أو لا يكون لكنه قدرهم وخلاصهم في آن. ‏

حسناً! أنا كانت علتي في رأسي وقد أغراني الهرب إلى قصر السيدة لو تم بالخلاص من المخلوقات التي تسكن رأسي وقام في وهمي أن الاختباء في بيت منعزل بين الجبال والثلوج سيريحني من طرقات قبضة نحاسية تضرب كالمطرقة على الصدغين من هذا الرأس لكنني كنت واهماً وكنت مجنوناً وقد أضعت عمري كله بين الوهم والجنون لأنه مكتوب إن بالألم يحيا المبدع وبه يموت أيضاً. ‏

كفى استرسالاً أنتم على شوق أو نفاد صبر أو لا مبالاة أمام حادثتي الرهيبة وأنا لا أتحدث إليكم بل أفكر بصوت عال أمامكم أن ما حدث في ذلك البيت المهجور قد كان رهيباً فألسنة اللهب، التي تتعالى من النار في الموقد، شرعت على غفلة مني تصنع لي تلك المفاجأة المذهلة إذ هي في ارتفاعها اللهبي كانت تتفيرق شعلاً وتتصاعد أعلى فأعلى ثم تتفتح كالبراعم الجهنمية في شجرة ملعونة أنواعاً وألوناً من زهر العالم السفلي ومن كل زهرة يتشكل مخلوق ثم ينفصل عن اللهب بعد أن يتجسد حياً ويقف في الغرفة من حولي هذه حقائق وليست تهيؤات لم أكن قد فقدت عقلي بعد، ولم أكن قد صرت توشيحة في سحابة بيضاء تستسلم للريح وتنساق أمامها ثم تتبدد بفعلها كنت عاقلاً جداً وواعياً جداً ويقظاً جداً لكنني كنت خائفاً جداً لأن ألسنة اللهب جميعها ارتفعت وتبرعمت وأورقت ثم أزهرت مخلوقات بشرية هي ذاتها المخلوقات التي كانت في رأسي قبل أن أغادر المدينة وقبل أن أهرب منها إليها. ‏

امتلأت الغرفة بتلك المخلوقات تحلقت حولي حاصرتني سدت علي منافذ النجاة وطفقت تتكلم بأصوات ذات نبرات مختلفة لكنها مروعة كانت مريم السوداء احدى بطلات روايتي (المصابيح الزرق) أو المتكلمين. قالت: ‏

- جئت لمقاضاتك على ما ارتكبت من ذنب بحقي فقد رسمتني قبيحة شوهاء وبالغت في تشويهي. ‏

قلت: ‏

- أنا لم أذنب بحقك يا مريم، وهذا كتابي شاهدي ‏

قال الطروسي، بطل «الشراع والعاصفة»: ‏

- وأنا أيضاً أتهمك ‏

قلت: ‏

- بماذا تتهمني يا ريس، بل يا سيد الرياس ‏

قال: ‏

- أبقيتني، في روايتك، دون زواج دون أسرة أو ولد حكمت علي بالعقم. ‏

وفي هذه اللحظة، انشقت صفوف مخلوقاتي وبرز لي إنسان بحر وغابة، طويل الشعر يعتمر طاقة صوفية، ومن أسماله البالية، ونظراته الحارقة، تنداح تهاويل مخيفة صاح بي: ‏

- أنت مجرم أيها الهارب من غابة وحشية إلى غابة وحشية وقد حانت ساعة الدينونة أنا زكريا المرسنلي بطل روايتك «الياطر» ‏

قلت مرتعشاً من فرط رعب أمام اتهامه: ‏

- بم أسأت إليك يا زكريا؟ ‏

قال: ‏

- صورتني نصف وحش ونصف انسان وحولتني إلى ضبع في غابة ثم لم تكمل قصتي ثمانية عشر عاماً وأنا أنتظر أن تكمل قصتي وها أنا عمري يكاد ينقضي وما أزال مطارداً منتظراً. ‏

قلت: وأنا أنوء تحت وطأة اتهام تتوفر له كل الأدلة الدامغة: ‏

- هذا ذنب أعترف به يا زكريا، لكنني سأصلح الخطأ، سأكتب بقية قصتك في الجزء الثاني من الياطر. ‏

تقدم نحوي بكل هيكله الفيلي الضخم وخطف حطبة مشتعلة من الموقد وصرخ ‏

أنت كاذب وسأحرقك. ‏

لكن صالح حزوم البحار الذي نزل إلى الباخرة الفرنسية الجانحة في مدينة اسكندرونة وغرق فيها ولم يعثر أحد على جثته بعد ذلك انتزع الحطبة المشتعلة من يد المرسنلي، وقال بصوته الرجولي الهادئ والواثق: ‏

كفى عربدة! نحن هنا للتظلم وليس للانتقام سنقيم محكمة وستكون فيها يا زكريا المحضر تنادي على اسماء المدعين والشهود. ‏

قال ذلك وأشار بيده فإذا قوس محكمة ينصب وقفص اتهام يقام على جانبي المحكمة مقاعد للمدعين ومقاعد للمحلفين ورأيت فوق قوس المحكمة أبو فارس بطل المصابيح الزرق وقام بمهمة النائب العام امرأة تفرست بها جيداً فإذا هي كاترين الحلوة بطلة ثلاثية البحر: حكاية بحار و«الدقل» و«المرفأ البعيد» وتقدم مني شرطيان هما من أبطال روايتي «نهاية رجل شجاع» فرفعاني عنوة واقتاداني إلى داخل قفص الاتهام ووقفا عند بابه حارسين كي لا أهرب. ‏

طلب القاضي أبو فارس من كاتب المحكمة الرجل الصغير القميء المتعلم في روايتي «الشمس في يوم غائم» أن يتلو قرار الاتهام فتلاه كان قراراً طويلاً جداً وقد تلاه ونحن جميعاً جلوس وأنا من قفص الاتهام أنظر بعينين مبللتين بماء الحسرة على عمر أنفقته في إعطاء الحياة لهؤلاء المتجمهرين في المحكمة من الذين كتبت عنهم والذين لم أكتب عنهم والذين كنت دقيقاً أميناً في رسمهم ولم أقترف بحقهم أي ذنب. ‏

بعد قراءة قرار الاتهام والمواد القانونية المطلوب تجريمي بها صاح القاضي: ‏

- أين محامي الادعاء؟ ‏

تقدمت امرأة فارعة القامة رمحاوية العينين حلوة السمرة كنت قد فكرت أن أتخذها بطلة لروايتي التي لم تكتب وعنوانها «امرأة الدهور» وقالت لرئيس المحكمة بنبرة جازمة: ‏

أنا هي محامية الادعاء ‏

صاح القاضي: ‏

أين محامي الدفاع؟ ‏

فتقدمت امرأة بيضاء البشرة ذات جمال أسطوري هي جنية القمر في روايتي «الربيع والخريف» وقالت: أنا هي محامية الدفاع يا سيدي ‏

كنت, خلال كل هذه الإجراءات الشكلية, التي نص عليها قانون أصول المحاكمات, والتي عرفت منها أنني أحاكم أمام محكمة جنائية, وحتى أثناء قراءة الاتهام الطويل, أحدق في الوجوه, واتفرس في القسمات, وأحاول أن أتعرف على الجميع: على الذين يتهمونني, والذين يحاكمونني, والذين نهضوا بمهمة المحلفين, ومهمة المدعين, وأتساءل, بشك ديكارتي, عما إذا كنت أعرف هذه الوجوه كلها, وعما إذا كنت أنا الذي رسمتها حقاً, ومنحتها الحياة حقاً, أو وعدت برسمها ومنحها الحياة ولم أفعل, وقد أدهشني هذا العدد الكبير, المزدحم في قاعة المحكمة, من الذين كانوا شخصيات رواياتي, أو الذين لم يكونوا بعد, لأنهم ينتظرون دورهم وقد فرغ صبرهم وكلت سواعدهم وهم يرجمونني بأحجار, هي مطارق في الصدغين, حاولت عبثاً الهروب منها, أو الإفلات من ملاحقتها, في تلك المطاردة العنيفة, السريعة, التي كانت لامرئ القيس, من أصحاب معلقاتنا المشهورة. ‏

استمرت المحاكمة من الصباح إلى المساء... ثم رفعت الجلسة للمذاكرة, ودخل الملحفون القاءة المخصصة لهم للتداول, ورحت, خلال ذلك كله, وأنا انتظر الحكم بالبراءة, أحاول رسم ابتسامة ديدمونية كما في مسرحية عطيل, طالباً الرحمة والرأفة, لكن كل من كان حولي, كور راحتيه, ذات الأصابع المتشنجة والأظافر المسنونة, ومدها نحوي ليخنقني, كما خنق عطيل ديدمونته البريئة. أخيراً صاح المحضر زكريا المرسنلي, بصوت جهوري: ‏

محكمة! ‏

وقف كل من في القاعة. وقفت بدوري دلف إلى القاعة رئيس المحكمة وتلاه المحلفون وبعد أن علا صوت مطرقة القاضي ثلاث مرات سأل المحلفين: ‏

هل هذا المتهم, حنا مينه, ابوه سليم, وأمه مريانا مذنب أم لا فأجابت الأكثرية: ‏

مذنب ‏

عندئذ نطق القاضي بالحكم, وهو الإعدام مع الأشغال الشاقة ومع وقف التنفيذ إلى أن أقوم بأداء ما يجب علي من عمل شاق وهو مواصلة الكتابة ‏

هكذا, سيداتي سادتي, ترونني الآن بينكم أمارس الأشغال الشاقة التي هي الكتابة وانتظر منكم أنتم أيضاً أن تصدروا حكمكم علي وآمل ألا يكون حكمكم بالإعدام مرة ثانية، فالإعدام في المرة الأولى يكفي وكل ما أرجوه أن تنفذوا الحكم بأسرع ما يمكن كي أتخلص من الأشغال الشاقة التي هي كتابة الرواية أو كتابة السيرة الذاتية التي حبرتها بدمي ومازالت أواصل وأنا في الحالين الجلاد والضحية.

حنا مينه

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...