حماه لا تريد تكرار تجربة الثمانينيات

03-09-2016

حماه لا تريد تكرار تجربة الثمانينيات

عادت ناعورة حماه الرئيسية في ساحة العاصي للدوران قبل أيام قليلة بعدما أعيد تجديدها بقرار من السلطات المحلية، تجديد يشبه ما فعلته المدينة بأسرها في علاقتها مع الصراع المسلح في سوريا، فطوت صفحة الحرب منذ بداية «الحراك» واضعة ذكرى الثمانينيات نصب عينيها، تماماً كما طوت ناعورتها صفحة الماضي.
في العام 2011، شهدت حماه تظاهرة معارضة شارك فيها مئات الآلاف، وقد كانت ولا تزال الأكبر على الإطلاق بين التظاهرات المناهضة للنظام السوري، وسجلت نفسها آنذاك على لائحة المدن المنضوية تحت جناح «الحراك» بقوة، لتسرق الأنظار من باقي المدن السورية التي شهدت تظاهرات مماثلة.
السفير الأميركي روبرت فورد حين اندلعت شرارات الحرب السورية سارع إلى حماه، وتحديداً إلى ساحة العاصي، ليلتقي بالمتظاهرين في تموز 2011، ولتشهد حماه بعدها بفترة قصيرة معارك مسلحة أدخلتها دائرة العنف من بابها الواسع، سجل فيها وقوع عشرات الضحايا، بينهم عناصر شرطة قتلوا ورميت جثثهم في مياه العاصي.
الجيش السوري حسم المعركة بسرعة، ودخل حماه من دون دمارٍ يذكر. يقول نقيب في الجيش السوري شارك في المعارك آنذاك «لقد اعتمدنا على مخبرينا داخل المدينة، الذين زودونا بمعلومات وإحداثيات دقيقة عن أماكن وجود المسلحين، وبالتالي تم استهداف أماكن وجودهم دون غيرها، ما جعل نسبة الدمار في أدنى حدودها».
خاصية حماه التاريخية كانت قد دفعت الدولة السورية لتفعيل وجودها الأمني تفعيلا أكثر كثافة في المدينة خلال سنوات ما قبل الحرب، بينما لم يكن الوضع على هذه الحال في باقي المدن التي شهدت «حراكاً»، وبالتالي فإن العمل الاستخباري المسبق في حماه جعل تثبيت الاستقرار عسكرياً فيها أكثر سهولة.
الاستقرار الذي شهدته حماه لم يكن بفعل القوة وحدها، يقول عدنان، وهو طبيب من المدينة، مضيفاً «لم يكن لدينا مانع في تثبيت الاستقرار نهائياً، فلا مصلحة لعاقل في جعل حماه ساحة حرب كما حصل في الثمانينيات، لذلك عملنا على التهدئة، ولم نمنح الشرعية للسلاح، لكننا بقينا على موقفنا المعارض للنظام».
يوماً بعد يوم، كانت نيران الحرب تزداد اشتعالاً في مناطق سورية مختلفة بينما كانت حماه تزداد بروداً واستقرارا، وكلما حاولت جماعةٌ تحريك ركودها، كان أهل المدينة يضغطون عليها حتى تغادر وتذهب إلى مناطق القتال خارجها.
ويشرح عدنان «لقد آثرنا تحييد المدينة عن الصراع عسكرياً، ودفعنا بمن يريد الحرب للذهاب والقتال في الجبهات المشتعلة خارج حماه لتجنيبها إعادة تجربة الثمانينيات عندما تحولت إلى ميدان لصراع دامٍ بين «الطليعة المقاتلة» («الإخوان المسلمين») والجيش السوري، ما ألحق دماراً كبيراً بها».
وعلى الرغم من أن الآلاف من أبناء حماه يقاتلون على جبهات أخرى، إلا أن أهالي المدينة بالنسبة للمجموعات التكفيرية و «الجهادية» على الأرض السورية هم «أهل بدعة»، وذلك لأسباب عديدة من وجهة نظر هذه المجموعات، ومنها على سبيل المثال أنهم يقيمون التسابيح قبل الأذان وفي جميع الصلوات، وهو أمر تحظره الفصائل المسيطرة على إدلب المجاورة وتعتبره خروجاً عن الدين.
المدينة التي يخترقها نهر العاصي تحولت إلى مركز استقطاب للهاربين من العنف في مناطقهم، وعلى رأسهم أهالي ادلب والرقة وبعض أهالي حلب، حيث قصدها مئات آلاف النازحين الذين لم يستطيعوا التغيير من ثقافتها التي ظلت على خاصيتها التاريخية، وهي الانغلاق على نفسها وعدم قبول الثقافات الداخلة إليها. يقول عبد الخالق، وهو نازح من ادلب «لم نستطع الاندماج مع المجتمع المحلي بسبب عدم قبوله لعاداتنا وتقاليدنا ولباس نسائنا، لذلك تجدنا كنازحين أُجبرنا على تشكيل مجتمعنا الخاص ضمن البيئة المضيفة لنا».
الحرب غيّرت كثيراً من واقع حماه خارج الميدان العسكري من خلال آثارها على حياة الحمويين، حيث تبدو شوارعها قليلة الازدحام رغم احتضان المحافظة لقرابة مليون شخص، ويبدأ يوم العمل فيها بحدود الساعة العاشرة صباحاً وينتهي بحدود السابعة مساءً، حيث تغلق المحال التجارية وتخلو معظم الشوارع من المواطنين.
تقول نور، وهي من نشطاء المجتمع المدني إن «أهل حماه يحبون راحتهم كثيراً، وبالتالي فإن الصفة العامة لديهم أن يوم عملهم قصير، لكن هناك عوامل أخرى أدت إلى تراجع مستوى الازدحام في المدينة، منها هجرة الشباب وأحداث الخطف والاغتيالات التي كانت تشهدها المدينة سابقاً، إضافة إلى أزمة الكهرباء المزمنة، حيث تصل ساعات التقنين إلى 18 ساعة يومياً».
الدولة السورية منحت حماه الكثير من الخصوصية في المعاملة، وتركت الأهالي على حريتهم المطلقة، خصوصاً في الجانب الديني، حيث تنتشر مئات المساجد في المدينة، وهناك آلاف الشيوخ الذين يفرضون نظاماً حياتياً دينياً على سكانها. لذا، من الممكن القول إن مظاهر «التطرف» واضحة فيها بأكثر تجلياتها، خصوصاً في موضوع حقوق المرأة ودورها في المجتمع. وعلى سبيل المثال، فإن فرق الإسعاف التابعة للمنظمات الإغاثية في حماه لا تضم أي امرأة بفعل القيود التي فرضتها السلطة الدينية على الأهالي، بينما فرق الإسعاف في باقي المحافظات السورية تضم العديد من النساء.
وتحظى حماه باهتمام لافت من المنظمات الدولية على الصعيدين الإغاثي والتنموي، حيث تبلغ حصة أهالي حماه ما يعادل 70 في المئة من عدد المستفيدين من البرامج المنفذة على الأرض، على عكس معظم المحافظات السورية الأخرى، والتي تكون الأغلبية فيها للنازحين على حساب أهالي المنطقة المضيفة.
تمتعت حماه بخصوصية كبيرة في الماضي وهي تتمتع بها حاضراً، وقد أحيطت مؤخراً بخندق يشكل سواراً أمنياً لها لتجنيبها مخاطر الريف الشمالي الملاصق لإدلب. هذا الطوق يضاف إلى الإرادة التي فرضها الأهالي بتحييد المدينة ومراجعة دروس الماضي.
حماه التي نأت بنفسها عن الصراع واحتضنت مئات آلاف المدنيين الآمنين، تتعرض اليوم لهجوم من خاصرتها الشمالية يهدد بنسف حالة الاستقرار التي عاشتها منذ سنوات وجعلتها مقصداً لمئات آلاف النازحين.

بلال سليطين

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...