تائهة في بلدي

17-12-2007

تائهة في بلدي

ليل شتوي طويل.... الساعة تقترب من السابعة مساء لكن المنظر بدا كما لو أن الليل على وشك أن ينتصف..
كنت أقود سيارتي قادمة من أوتوستراد المطار متوجهة إلى المزة.. الطريق عتمة واللافتات كثيرة، والسيارات خلفي وعن يميني وعن شمالي تزاحم وتلتصق بمثيلاتها وسائقوها لا يتوقفون عن استخدام الضوء العالي لكي يتربعوا على عرش الطريق دون مزاحم.. وأنا أبحث عن اللافتة التي تدلني على الطريق الفرعي المتوجه إلى المزة أو بيروت عن طريق المتحلق.. لوحات كثيرة تحول لونها إلى الأسود بعد أن هطلت الأمطار فتحول الغبار الذي يغطيها إلى طين أسود أخفى ما هو مكتوب عليها.. فجأة وجدت أمامي لافتة تشير إلى اليمين مباشرة على إحدى الفتحات الجانبية كتب عليها بيروت.. قلت في نفسي لا يعقل أن توضع اللافتة فجأة على الشارع المطلوب لابد أن الانعطاف المقبل هو ما أبحث عنه..
أخذت يميني وأعطيت الإشارة استعدادا للذهاب إلى وجهتي، لكن اللافتة التالية كانت تدل على مركز المدينة.. اللعنة.. علقنا وراحت علينا... الطريق الوحيد الذي يجب أن أسلكه الآن هو باب مصلى ومنه إلى كفر سوسة.. وغرقت في الازدحام وتعب الأعصاب.. عجيب أمر السائقين في بلدي، إنهم يتزاحمون بسياراتهم تماما كما يتزاحمون بأكتافهم على أي كوة لدفع الفواتير أو لمراجعة الموظفين.. والواحد منهم لا يهمه أحد، ولا يعطي الطريق لأحد ولا ينتظر أحدا، ومهما أعطيت إشارة إلى اليمين أو اليسار استئذانا بتغيير المسار وانتظرت، تقابلك لا مبالاة كاملة.. القيادة في دمشق قصة لا نهاية لها.. يقال إن القيادة فن وذوق وأخلاق.. هنا، لا فن ولا ذوق ولا أخلاق.. كتيب قوانين المرور لا وجود له... والطريق لا تعرفها لمن.. الواضح أنه للماشي والمزاحم، وحتى لمن يحلو له من المشاة أن يتبختر وهو يقطع الشارع وكأنه يتريض على الكورنيش!.. أما في حالة قرر أحد السائقين الوقوف فإنه بكل بساطة يترك سيارته في منتصف الطريق، دون أي اعتبار للآخرين، وماذا يهم لو تعطل السير طالما أن الوضع يريحه ويناسبه! إنها نظرية أنا ومن بعدي الطوفان... وبين كل هذه المعاناة يبرز أمامك جحيم آخر اسمه: ثاني أوكسيد الكربون.. عليك أن تتنفس هذه السموم غصبا عنك.. سيارات أكل الدهر عليها وشرب، وشاحنات لم تمر على يد الميكانيكي منذ دهور، ولم تعرف الصيانة منذ عصور، تنفث دخانا أسود كالظلام، يحيط بك من كل جانب حتى ليكاد يقول لك: (وشو آخدين من هالدنيا؟ بلا هالعيشة أحسن!).. لم يكن الطقس شديد البرودة.. تمنيت أن أفتح نافذة سيارتي لكي أستنشق هواء منعشا و... نقيا... لكني كنت أحلم.. حلما بعيد المنال.. أنى لي أن أستمتع بطقس بلادي المتوسطي الجميل وهذه السموم السوداء تحيط بي وتجبرني على إغلاق النوافذ.. قلت في نفسي: أختنق داخل السيارة أفضل من أن أتعرض لاحتمال إصابتي بأحد أنواع السرطان، وانشالله عمري ما شم هوا بلادي!!
كانت غلطة بألف غلطة تلك التي ارتكبتها، عندما تخيلت أن المنطق يفترض أن توضع اللافتة الإرشادية قبل مئة متر على الأقل من الطريق الفرعي.. ولكن لحظة.. أنا ألوم نفسي على شيء لا أتحمل المسؤولية عنه.. إن المنطق فعلا يقول إن اللافتة توضع قبل مسافة كافية لكي يهيأ السائق نفسه على مهل ويأخذ يمينه بهدوء.. غير أن أكثر اللافتات الإرشادية عندنا مكانها غير صحيح.. ماذا لو أنني كنت غريبة عن البلد (وبالمناسبة أنا مغتربة منذ زمن) واستأجرت سيارة لكي أقضي أعمالي بسهولة هربا من تحكم سائقي التاكسي الذين لا يقفون إلا على مزاجهم، ويرفضون الذهاب إلى الأحياء التي لا تعجبهم أو غير القريبة من مناطق سكنهم، أو يبحثون عن شكل الزبون المفصل على مقاييسهم التي يفترضون من خلالها أن هذا الزبون من الناس "الدفيعة" الذين لا يفاصلون على العداد.. أقول ماذا لو كان الغريب أو السائح يقود سيارته حسب خريطة المدينة الطبوغرافية.. (هل لدينا خرائط مفصلة لمن يريد قيادة سيارة في المدينة؟) كيف يفترض أن يجد طريقه بسهولة أمام لافتات إرشادية متأخرة؟ ثم لماذا لا تكتب الوجهة باللغتين العربية والانجليزية؟ لقد لاحظت أن هناك نسبة لابأس بها من الأجانب موجودة في بلدنا بسبب العمل وخلافه، لماذا والحال كذلك نجعل حياتهم صعبة؟ يكفينا ويكفيهم أننا عندما نسير في شوارع المدينة ترتطم رؤوسنا عشرات المرات بسقف السيارة وتنقلب معداتنا بكل ما فيها من طعام كلما ارتطمت السيارة بحفرة (وهذه تضاعف عددها بعد الأمطار) وكلما مرت على طريق بدا كالتلال الصاعدة والهابطة.. أتمنى من كل قلبي أن يوجد من يجيب على تساؤلاتي، ثم يعمل على تصحيح الوضع، لكي تعود الشام شامة.. لكي تكون الوردة التي نحبها كما أحببناها دائما، وكما نحلم بها أن تكون، كما يتصورها البعيد، والمغترب، وكما هي شامخة في وجه العواصف الخارجية، تصبح جالسة على عرش الجمال..

 

ميساء آق بيق

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...