الشــعر اليــوم فــي عصــر نهضــة جميــل

25-03-2011

الشــعر اليــوم فــي عصــر نهضــة جميــل

تقدم الشاعرة جاكي كاي في هذا المقال رؤيتها الخاصة تجاه مسألة حاجة الناس إلى الشعر في الوقت الراهن، كما تقدم قراءة عامة لواقع الشعر في بريطانيا من خلال شهادات الشعراء على الجوائز والجمهور ونشر الكتب والأنشطة الشعرية، وجاكي كاي شاعرة وروائية وكاتبة مسرح بريطانية، ولدت عام 1961 في أسكوتلندا، من أم أسكوتلندية وأبٍ نيجيري، ودرست اللغة الإنكليزية في جامعة ستيرلنج، تقيم حالياً في مدينة مانشستر البريطانية، وتعمل أستاذة مادة (الكتابة الإبداعية) في جامعة (نيوكاسل).
في منتصف الشتاء الكئيب، ومع استمرار الركود الاقتصادي والطقس السيئ، يساعدنا الشعر على توازن الروح مع الجسد في الوقت الذي يصبح فيه كل شيء دون طعم، دون إحساس، يُتوقع في هذه الأثناء أن يقدم الشعر حيويته ودهشته، تقول جو شابكوت التي حاز ديوانها المذهل (عن قابلية التغيير) جائزة (كوستا): «انظر في هذا النهار إلى الأسفل لتتأكد من وجود قدميك، إياك أن تثق بالرصيف الذي تمشي عليه، أو بدورتك الدموية، ابحث عن طبيبٍ مختصٍ بزيادة سعة القبر، انظر إلى الكسوف في الأعلى، إلى ورقةٍ من ذهب، المذنبات، الملائكة، الثريات، انظر خارج زاوية عينك، لا تنزعج، مع ذلك، لأنك لست قائداً للسماء».
هذه السنة الثانية على التوالي التي يحصد فيها الشعرُ جائزة كوستا، وفي الأسبوع الماضي ربح الشاعر (ديريك والكوت) جائزة (تي إس إليوت) رفيعة المستوى، واستمع لشعره أثناء مهرجان الجائزة ألفا شخص بحضورهم اللافت واهتمامهم الفريد في قاعة لندن الملكية.
أما (كارول آن دوفي)(1) فلم تقدم لنا تجربتها الشعرية الفريدة فحسب، بل إنها تعمل أيضاً من أجل تجارب الشعراء الآخرين، حتى تتحقق المعادلة بين الحفاظ على الأصالة وخلق الجديد في عالم الشعر.
في الحقيقة، كثير من الفعاليات كانت تقام حول الشعر لكنها لا تصب في صلبه، فهل تغير شيء الآن؟ هل ستلقى مجموعات الشعر والمختارات الأدبية مزيداً من القراء؟ هل يعيش الشعر في عصر جديد من النهضة؟ أم أن أجهزة الإعلام تقتصر على تقديم ملاحظات موجزة عما يحدث في عالم الشعر؟
«طوال حياتي كنت أسمع من الناس عن أن هناك نهضة في الشعر» تحدثني دوفي؛ وتضيف «إذا كان هناك فعلاً نهضة؛ فإنها انطلقت منذ ثلاثين عاماً، حين أصدر لونش هيد مجموعته»(إنها مجنونة)، ربما لأن إصدار هذه المجموعة تزامن مع افتتاح مركز معالجة للحروق، لأن القائمين على هذا المركز ما زالوا يقرأون شعره بإعجاب كبير مطلع كل عام، لا سيما قوله: «لا بد أن هناك يداً لأحدهم تشــعل نار ثقتي بالآخرين» فالنار هي أقدم كلمة يستخدمها الأسكوتلنديون للتعبير عن شعورهم تجاه أصدقائهم.
تباغتنا الشاعرة شابكوت دائماً وقد فازت بإحدى الجوائز، مع العلم أن الجائزة الشعرية لا تُمنح إلا لمصلحة الشعر أولاً وأخيراً، «هناك القليل من المنافسة على الجوائز بين الشعراء، ونحن نحرص على بقاء هذه المنافسة وتجددها، ليحييها الشــعراء القــادمون بعدنا» تقول دوفي.
«من العظيم أن يحصل الشعر على بعض الانتباه ولو كان ذلك بصورة دورية» تقول شابكوت، هكذا يبدو الشعر كأنه كان قد اختفى ثم أعيدَ اكتشافه، في حين أنه لم يختفِ يوماً، بل كان يعيش في الخفاء، وماذا عن مبيعات الشعر؟ «كانت إحدى دور النشر (فابير) معتكفة بطاقمها على الهاتف طــوال الليل لتنال حق طباعة مجموعتي الفائزة بجــائزة كوستا» تقول شابكوت.
الشعراء الشباب
أما كراريس الجيب الصغيرة التي يطبعها الشعراء الشباب فقد نالت رواجاً هائلاً في الصحافة، الشعراء الشباب يكتبون بموهبة غضة لكن لا نهاية لامتدادها، إضافة إلى إصدار (فابير) بعض الكراريس للشعراء الشباب الاستثنائيين والمُنتقين بعناية.
الشعر الجيد ينبع من المفاجآت، ويكون ذلك بقدرة الشاعر الفذة على التماشي مع وقتنا الراهن في شعره، «ليس الذي يتنعَّم بالسرير ثم يتركه ويذهب/ بل الذي يحمل سريره معه، هذا هو الشاعر» يقول (سيموس هيني) الذي استطاع أن يكتب نفسه بصدق بعد كل ضربة موجعة يتلقاها، هكذا يتجه الناس إلى الشعر الحقيقي، في أوقات الكآبة، في انكــسار القلب والفواجع، لكي يعبروا عما لا يمكن وصــفه في الكلام العادي.
«في العالم المليء بالضجيج والتطبيل تمتلئ عيونك بالخمود والسبات، يُحجب عنك شروق الشمس، هذا العالم الذي يستفحل فيه مرض السكر بخرابه البطيء تقرُّ بأن جميع الجُمل اللغوية قد أصبحت ذات معنىً واحد»، يقول والكوت، لكن في جميع الأحوال، عندما يُترع قلبك بالحب، ستلامسك عجائب هذا العالم، هكذا يعود جميع الناس إلى الشعر لإيجاد الكلمات التي توازي دهشتهم، ومع أن الشعر يبدو سهلاً إلا أنه مستحيلٌ في الوقت ذاته! وهو بهذه الطريقة يصحبنا إلى جهات لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريقه.
عندما كنت في سن المراهقة، ذهبت إلى نشاطٍ أطلِقَ عليه (ليالي الباينتات والقصائد)(2)، فأصغيت إلى شعراء يقرأون قصائدهم بلغة مشتركة، في ذلك المكان لم يكن لزاماً عليك أن تفتش عن صوتك المختلف عنهم، فقد صهروا جميع الأصوات الشعرية ليخلقوا صوتاً يمثل الجميع مع أنه صوت مختلف وخاص بهم، ولعل هذا هو مفتاح النجاح اللانهائي لهم، حين تمثل الأصوات الشعرية الأصيلة أصوات الجماهير كلها.
شعراء البوب
السنة الماضية أيضاً، صدرت مختارات أدبية رائدة لأعمال الكتَّاب السود، لكنها لم تلقَ اهتماماً كافياً من الصحافة، لقد كانت عملاً ضخماً وهاماً، ربما لأن الكتَّاب السود لم يحصروا أنفسهم كما في السابق بالكتابة عن الجنس والتمييز العنصري، بل التهبت قصائدهم بألوان جديدة، هذه المختارات واحدة من الخطوات الجديدة التي تجذب الجمهور النوعي والمختلف لحضور المهرجانات الشعرية، كمهرجان ليدبري، ومهرجان دوروثي ووردسوث، مهرجانات كثيرة ستبرعم في المستقبل مهرجانات أخرى في جميع الأرجاء.
كان من المضحك سابقاً أن تطلق مجموعة من الشعراء على نفسها (شعراء البوب)، وأن تقيم حفلات لقراءة الشعر، لكن ذلك لم يعد مضحكاً الآن، لم يعد مضحكاً عندما يتجمهر ألف شخص ليحضر إحدى حفلاتهم، أو يتجمع مئات الناس ليستمعوا إلى إحدى أسطواناتهم في حفلات توزيع الكتب، ويصيحوا ويهتفوا كما لو أنهم في حفلة موسيقى البوب، مع العلم أن هؤلاء الشعراء يقومون بكل مستلزمات حفلة البوب باستثناء الغناء.
في كل أنحاء بريطانيا اليوم؛ يحثُّ المدرسون طلبتَهم على حضور الأنشطة الشعرية وقراءة الشعر، وكما في إحدى الإحصائيات فإن هناك 150 ألفاً من تلاميذ المدارس يحضرون الأنشطة الشعرية كل عام، يأتون من كل مكان ليستمعوا إلى الشعراء الذين كانوا قد قرأوا قصائدهم في صفحات الكتب المدرسية: جيليان كلارك، سايمون آرميتِج، جون إيمتايز، كارول آن دوفي...، وهذا الحضور يجعلهم يعيشون الإثارة والمفاجأة، فما إن يصعد أحد الشعراء إلى خشبة المسرح حتى يهدروا بعواصف من الهتاف، هذا أمر طبيعي، مهما حُللت أسبابه المنطقية أو الصدف التي ولدته فلن تتعدى السبب الأهم: إقامة الأنشطة الشعرية!

جاي كاي
ترجمة/ عمر سليمان (كاتب سوري)


هوامش:
[ بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر انتشرت حركة انتقالية في أوربا سُميت بـ (عصر النهضة الأوروبية) (renaissance)، وشهدت هذه الحركة ازدهار الأدب والفن والعلم الحديث، فالشاعرة تبشر في هذا المقال بعودة الشعر إلى ازدهاره الذي كان في ذلك العصر، وقد نُشر المقال في صحيفة الغارديان البريطانية بتاريخ 29/1/2011 (المترجم).
(1) كارول آن دوفي: شاعرة البلاط البريطانية.
(2) الباينت مكيال لوزن السوائل، والمقصود بعبارة (ليالي الباينتات والقصائد) أن هذه الليالي مخصصة للشراب وقراءة الشعر(المترجم).

 

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...