الجرادة في الثقافة الشعبية المغربية

30-08-2007

الجرادة في الثقافة الشعبية المغربية

حذار غضب «عمي الحاج»، عصاه تنزل كالصاعقة على من يعترض طريقه. و«عمي الحاج» هو الجرادة الخضراء التي تعيش وسط النباتات.

أطفال وشباب اليوم لا يعرفون عنه شيئاً يذكر، فالأحراش والحدائق المنزلية المخضّرة التي كان يؤوي إليها «عمّنا» الأخضر بأحجام متفاوتة، ورأس عريض تخاله معمّماً، ويقف فيها منتصباً على عصيه (أي قوائمه) الستة، اندثرت. واختفت من محيط بيوت المدينة المستأنسة بزحف الأسمنت.

أعترف بأني لم أكن أعلم بأن لي عمّاً «حشرة» من قبل. ولم يسبق أن ذهب عمّ لي إلى الحج. تعرّفت الى ذلك «العم الحاج» ولم يكن نسيبي، بل هو من نوع مختلف من المخلوقات.

كان يزور منزلنا بانتظام، آتياً من الحدائق المجاورة. وأذكر أني لم اعترض طريقه يوماً، فقد بدا لي حاد الطباع، مستعـداً للانقـضاض في أي لحظة. وكنـت أحب التـحديق في وجهـه الرفـيع. وكان هو يظل رافعاً عـصاه في وجهي، بعيداً من متناوله من دون حراك. ثم أنهي المواجهة بالانسحاب، وربما بالاستسلام أمام عناده وجموده وتحديه. معظم الأطفال كانوا في سلام تام معه، لا يخشون عصاه المرفوعة، ويحسبونه حشرة «متحضرة»، تألف الإنسان، وترفع قائمتها للتحية والسلام.

في الواقع، لم يكن العم الجرادة جامداً أبداً، كان يحرك رأسه الصغير في أحد اتجاهين. وحين يحركه، تعرف الفتيات، والفتيان أيضاً، الاتجاه الذي سيأتي منه شريك العمر. من الشرق أم من الغرب؟ إذا نظر غرباً، يعني ذلك أن شريك العمر سيأتي من أوروبا، فيفرحن كثيراً. ويقنعن بالنصيب إذا استدار شرقاً. وبقاء رأسه جامداً، يُعتبر علامة مشؤومة تنذر بتأخر الزواج، أو العنس. فأطلق على الجرادة الخضراء تسمية ثانية، هي «زُوَيجة»، من تزويج وزواج. وبسبب مهمته «النبيلة» و «المصيرية» هذه، و «وقاره» و «صرامته» و «تحضره»، بات في مأمن من الاعتداء وتُرك لحال سبيله، دليلاً حراً لقلوب الصبايا.

وأما ابنة عمّها الجرادة البنّية الداكنة، فاتّبعت طريق «الشر». وهي تشنّ «حروباً»، على رأس جيش جرار، خلال سنوات الجفاف آتية من المناطق الصحراوية الحارة، ومن أعماق أفريقيا. فتهاجم المغرب بالملايين، ملتهمةً الأخضر واليابس، في غضون ساعات. وفي أربعينات القرن الماضي، عم الجفاف والقحط والمجاعة والجراد المغرب. وغدا المغاربة يستعينون بهجماته في تحديد حقبات من تاريخهم المعاصر، فيقال «عام الجراد» وعام الجوع...

والجراد المهاجم لا مكان له في المعتقدات الشعبية، فهو حقيقة وقضاء وقدر، لا تردعه، إلا بحدود، مخططات الحكومة لمكافحة اكتساحه. ولكنه يجد مكاناً آخر في معدات بعض سكان المغرب. فثمة من يأكل الجراد، مشوياً أو مقلياً، مع الخبز والشاي. ويعوضون ببروتيناته الغنية ومختلف مقوياته الغذائية، النقص في اللحم والسمك في موائدهم. هو إذاً أكلة المغاربة، الفقراء والجياع، على رغم أن المغاربة معروف عنهم أنهم لا يستهلكون الجراد، إلا في اللحظات العصيبة التي مر فيها المغرب في أزمنة الأوبئة والمجاعات المحفوظة في سجلات تاريخ المغرب.

يظل الجراد الأخضر الوحيد في الحشرات الذي اتخذ له مكاناً في شجرة عائلة المغاربة وأحلامهم الوردية... وأما قلوبهم فاحتلها نوع من الفراشات العديمة الذوق. فراشات صغيرة، بطيئة الحركة، ألوانها غامقة بين الأسود والبني، لا تحب الحرية والاستعراض في الخارج كما الفراشات الزاهية الرائعة. يطلق عليها محبوها اسم «بشار الخير»، لأنهم يستبشرون خيراً بدخولها المنازل، معتقدين أنها تجلب لهم الحظ السعيد والنعم.

لا أحب «بشار الخير»، ولم أعتقد يوماً في «كراماته»، ولم أناده يوما باسم «الدلع». وكالذين لا يعتقدون ببركاته، أناديه باسمه «فرطوطو»، نسبة إلى فعل «فرطط» بالعامية المغربية، وهي حركة قوية وسريعة لأطرافه تفيده في الخبط. وأفضل دائماً ألا ألتقي به في أركان المنزل. وإذا حصل ذلك، لا قدرة لي عليه أكثر من طرده خارجاً، تماماً مثل النحل والنمل الصغير والكبير الأسود. النمل الأحمر، مسألة أخرى، ارتفاعه عن الأرض، وكبر حجمه يكشفان أنه حشرة هجومية، لا تحب التعايش مع الإنسان (بعض المغاربة يطلقون عليه اسم النمل اليهودي). وفي الصيف، يكثر ويزعج ويُقتل بأعداد كبيرة.

عزيز آخر على المغاربة هو حيوان «الوزغة» الزاحفة الشبيهة بالحرباء والتمساح. كثيرون يتبركون بتسربها إلى مساكنهم، وكلما طال مكوثها، اطمأن مضيفوها إلى سلامتهم من حسد الحاسدين وكيد الساحرين.

غير أن الحارس الذي يرد شر السحر والأرواح الخبيثة ليس في الواقع عزيزاً على كل المغاربة، فمعتقدات شعبية أخرى في بعض المناطق تعتبره متقمصاً لأرواح الجن، وتتطير من وجوده في الداخل. فتطرده، من دون أن تجرأ على قتله، لأن عائلة الجني «القتيل» قد تنتقم بقتل أحد أفراد العائلة المعتدية.

عالم من الحكايات والقصص تنسجها معتقداتنا الشعبية المسنودة إلى مخاوفنا وهواجسنا وتطلعاتنا ومعرفتنا الضئيلة بالطبيعة من حولنا. حشرات كثيرة تعيش بين ظهرانينا، وتعكس علاقتنا بالطبيعة، انجذاباً ونفوراً وخوفاً وغموضاً ورهبة وترقّباً. علاقة متناقضة تطورت بتطور نمط حياتنا، وباعد التمدن بيننا وبين كائناتها الصغيرة التي بتنا نتخيلها وحوشاً كاسرة وأرواحاً شريرة، وقد كنا نعرفها وتعرفنا، وتألفنا ونألفها، حتى أن الضار منها كنا نتجنبه ولا نبيده، تاركينه لدورة الحياة.

نادية بنسلام

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...