الأخلاق : فضائل الدولة

10-02-2009

الأخلاق : فضائل الدولة

يفترض وجود دولة واحدة محدودة وجود دول متعددة , أو أن يحرض على تشكيلها عند الضرورة , من الطبيعي تماما أن الأفراد الذين يجدون أنفسهم خارج هذه الدولة و الذين تهدد هذه الدولة وجودهم و حريتهم , يجب بدورهم أن يجتمعوا ضدها . لدينا هنا الإنسانية و قد مزقت إلى عدد غير محدد من الدول , الأجنبية , المتعادية و التي تهدد بعضها البعض .
ليس هناك حق عام , و لا عقد اجتماعي بينها , لأنه إذا وجد مثل هذا العقد و الحق , ستكف الدول المختلفة عن أن تكون مستقلة بشكل مطلق عن بعضها , و ستصبح أعضاء متحدين في دولة واحدة كبرى . ما لم تشمل هذه الدولة الكبرى كل البشرية , فإنها ستجد في مواجهتها عداء بقية الدول الكبرى , المتحدة داخليا . لذلك ستكون الحرب هي القانون الأبرز و الضرورة الداخلية لوجود البشرية نفسه .
على كل دولة سواء أكانت ذات صفة اتحادية أم لا أن تسعى تحت طائلة التدمير النهائي لتصبح أكثر الدول قوة . عليها أن تبيد البقية كيلا تتعرض للإبادة هي نفسها , أن تخضع البقية كيلا تتعرض هي للإخضاع , أن تستعبد كيلا تتعرض هي للاستعباد – لأن قوتين متشابهتين و في نفس الوقت أجنبيتين , لا يمكنهما الوجود جنبا إلى جنب دون أن تدمر أحدهما الأخرى .
الدولة عندئذ هي أكثر نفي صارخ , النفي الأكثر سخرية و كمالا للإنسانية . إنها تمزق التضامن الشامل بين كل البشر على الأرض , و هي توحد بعضهم فقط بقصد تدمير , إخضاع , و استعباد البقية . إنها تقدم حمايتها لمواطنيها فقط , و هي تعترف بحقوق الإنسان و الإنسانية و التحضر فقط داخل حدودها . و لأنها لا تعترف بأي حق خارج حدودها فإنها تنسب لنفسها بشكل منطقي تماما حق معاملة كل الشعوب الأجنبية بأكثر الطرق الهمجية و غير الإنسانية , يمكنها أن تنهبها , أو تبيدها أو تخضعها لإرادتها . و إذا أظهرت شيئا من الكرم أو الإنسانية تجاهها فإنها لا تفعل ذلك في أي حال انطلاقا من إحساسها بالواجب : و ذلك لأنها لا تملك أي واجب إلا لنفسها فقط , و تجاه أعضائها الذين يشكلونها بواسطة الاتفاق الحر , و الذين يستمرون بتشكيلها على نفس الأسس الحرة , أو , كما يحدث على المدى البعيد , يصبحون رعيتها أو أتباعها .
لأن القانون الدولي غير موجود , و لأنه لا يمكن أن يوجد بطريقة جدية وفعلية دون أن يضعف نفس أسس مبدأ سيادة الدولة المطلقة , فليس للدولة أية واجبات تجاه الشعوب الأجنبية . و إذا قامت عندها بمعاملة شعب مغلوب بشكل إنساني , إذا لم تذهب إلى أبعد مدى في سلبه و إبادته , و لم تدفعه إلى أدنى درجات العبودية , فإنها تفعل ذلك ربما بسبب اعتبارات النفعية و الحصافة السياسية , أو حتى بسبب المروءة المحضة , لكن ليس أبدا بسبب أن هذا هو واجبها – لأن لديها حق مطلق في التخلص منها بأي طريقة تجدها مناسبة .
هذا النفي الصارخ للإنسانية , الذي يشكل جوهر الدولة نفسه , هو من وجهة نظر الأخيرة واجبها الأسمى و أعظم فضائلها : إنها تسمى الوطنية و هي تشكل الأخلاق المتعالية للدولة . إننا نسميها بالأخلاق المتعالية لأنها تتجاوز عادة مستوى الأخلاق و العدالة الإنسانية , سواء أكانت خاصة أو عامة , و لذلك فإنها تضع نفسها غالبا في تناقض معها . لذلك , على سبيل المثال , إن إيذاء , اضطهاد , سرقة , نهب , قتل , أو استعباد شخص من نفس الدولة يشكل , بالنسبة للأخلاق العادية للإنسان , ارتكاب جريمة خطيرة .
لكن , على النقيض من ذلك , ففي الحياة العامة , انطلاقا من وجهة نظر الوطنية , عندما يفعل كل ذلك في سبيل المجد الأعلى للدولة بقصد المحافظة على قوتها أو زيادتها , يصبح كل ذلك واجبا و فضيلة . و هذا الواجب , هذه الفضيلة , إلزامي على كل مواطن وطني . يتوقع من كل فرد أن يقوم بهذه الواجبات ليس فقط فيما يتعلق بالغرباء بل أيضا فيما يتعلق بمواطنيه , أعضاء و أتباع أو رعايا نفس الدولة , في أي وقت يتطلب ذلك صالح الدولة .
إن القانون الأعلى للدولة هو حفظ ذاتها بأي ثمن . و طالما أن كل الدول , منذ أن وجدت على الأرض , قد حكم عليها بالصراع الأزلي – صراع ضد شعوبها بالذات , التي تقمعها و تدمرها , و صراع ضد كل الدول الأجنبية , عندها يمكن لكل دولة أن تكون قوية فقط إذا كانت بقية الدول ضعيفة – و لأن الدول لا يمكنها الصمود في هذا الصراع ما لم تستمر بتعزيز سلطتها ضد أتباعها أو رعيتها بالإضافة إلى الدول المجاورة – ينتج عن هذا أن القانون الأعلى للدولة هو تقوية سلطتها نحو إلحاق الضرر بالحرية الداخلية و العدالة الخارجية .
هذا هو في حقيقته الصارخة الأخلاق الوحيدة للدولة , هدفها الوحيد . إنها تعبد الإله نفسه فقط لأنه إلهها الحصري , القبول بسلطتها و ما تسميه حقها , الذي هو الحق في الوجود بأي ثمن و أن تتوسع دوما على حساب بقية الدول . أي شيء يخدم الوصول إلى هذه الغاية هو شيء جدير , شرعي , و فاضل . و أي شيء يلحق به الضرر هو إجرامي . إن أخلاق الدولة إذن هي عكس العدالة الإنسانية و الأخلاق الإنسانية .
هذه الأخلاق المتعالية , فوق الإنسانية , و بالتالي المعادية للإنسانية للدولة ليست فقط نتيجة لفساد البشر المكلفين بالقيام بوظائف الدولة . قد يقول أحدهم و هو محق أن فساد البشر نتيجة طبيعية و ضرورية لمؤسسة الدولة . هذه الأخلاق هي فقط نتيجة تطور المبدأ الأساسي للدولة , التعبير الحتمي لضرورتها الداخلية . ليست الدولة إلا نفي الإنسانية , إنها محددة جماعيا لكي تأخذ مكان البشرية و تريد أن تفرض نفسها على الأخيرة كهدف نهائي , فيما يخضع كل شيء آخر لها و يخدمها .
كان هذا طبيعيا و يمكن فهمه بسهولة في الأزمنة القديمة عندما كانت فكرة الإنسانية نفسها غير معروفة , و عندما كان كل شعب يعبد آلهته الوطنية حصريا , التي تعطيه حق الحياة و الموت على بقية الشعوب . وجد الحق الإنساني فقط بالنسبة لمواطني الدولة . كل من بقي خارج الدولة قد حكم عليه بالنهب , المجازر و العبودية .
تغيرت الأمور اليوم . أصبحت فكرة الإنسانية أكثر فأكثر قوة في العالم المتحضر , و نتيجة لتوسع و تزايد سرعة وسائل الاتصال , و أيضا بفضل التأثير , الذي ما يزال ماديا أكثر منه أخلاقيا , للحضارة على الشعوب البربرية بدأت فكرة الإنسانية تستحوذ حتى على عقول الشعوب غير المتحضرة . هذه الفكرة هي القوة غير المرئية لقرننا , التي يجب على القوى الحالية – الدول – أن تحسب حسابها . لا يمكنها أن تخضع لها بإرادتها الحرة لأن إذعانا كهذا من جانبها سيساوي انتحارها , حيث أن انتصار الإنسانية يمكن أن يتحقق فقط من خلال تدمير الدول . لكن لا يمكن للدول أن تنكر هذه الفكرة أكثر من ذلك أو أن تعاديها بشكل مكشوف , لأنها و قد أصبحت قوية جدا , قد تدمرها في النهاية .
في مواجهة هذا البديل المؤلم يبقى أمامها طريق واحد فقط : و هو النفاق . تظهر الدول احترامها الظاهر لفكرة الإنسانية هذه , إنها تتحدث و تفعل بشكل ظاهري باسمها , لكنها تنتهكها في كل يوم . لكن هذا يجب ألا يؤخذ ضد الدول . لأنها لا تستطيع أن تتصرف بطريقة أخرى , لقد أصبحت في موقف بحيث أنه يمكنها الاستمرار فقط بواسطة الكذب . ليس للدبلوماسية أية مهمة أخرى .
لذلك ما الذي نراه ؟ في كل مرة تريد فيه دولة ما إعلان الحرب على دولة أخرى , فإنها تبدأ بإطلاق بيان لا يوجه فقط لأتباعها بل إلى العالم بأكمله . تعلن في هذا البيان أن الحق و العدالة إلى جانبها , و تعمل على إثبات أنها مدفوعة إليها فقط بسبب حب السلام و الإنسانية و أنها , مضمخة بالأحاسيس الكريمة و السلمية , عانت طويلا في صمت حتى أجبرها الظلم المتزايد لعدوها على تجريد سيفها . في نفس الوقت تقسم أنها , و هي تحتقر كل الفتوحات المادية و لا تسعى وراء أي زيادة في أراضيها , ستضع حدا لهذه الحرب ما أن تستعاد العدالة . و يجيب خصمها ببيان مشابه , حيث سيكون الحق , العدالة , الإنسانية , و كل الأحاسيس الكريمة بشكل طبيعي إلى جانبه .
هذه البيانات المتعارضة تكتب بنفس البلاغة , تتنفس نفس الغضب الأخلاقي , و كل منهما حسن النية مثل الآخر , أي القول أن كليهما متساو في الوقاحة في أكاذيبه , و أن المغفلين فقط هم من يخدعون بها . الأشخاص المدركون ,  كل من يملك بعض الخبرة السياسية , لا يتجشمون حتى عناء قراءة مثل هذه البيانات . على العكس تجدهم يبحثون عن وسائل للكشف عن المصالح التي تدفع العدوين إلى الحرب , و تحديد القوة الخاصة بكل منهما للتنبؤ بنتيجة الصراع . الذي يبرهن فقط أن القضايا الأخلاقية ليست هي المهمة في هذه الحروب .
حقوق الشعوب , بالإضافة إلى المعاهدات التي تنظم العلاقات بين الدول , تفتقد أي إلزامات أخلاقية . التي تشكل في أي مرحلة تاريخية معينة تعبيرا ماديا عن التوازن الناتج عن العداء المتبادل بين الدول . إنها ستكون فقط تأجيلا طويلا , مماطلات تم التوصل إليها بين الدول المتحاربة إلى الأبد , لكن ما أن تشعر الدولة بأنها قوية بما يكفي لتدمير هذا التوازن لمصلحتها , فإنها لن تعجز عن فعل ذلك . يثبت لنا تاريخ البشرية هذه الفكرة بشكل كامل .
يوضح لنا هذا لماذا منذ أن بدء التاريخ , أي منذ ظهرت الدولة للوجود , فقد كان العالم السياسي دوما و سيستمر كذلك مسرحا للخداع و اللصوصية التي لا يشق غبارها – اللصوصية و الخداع التي ترتكب بتعظيم كبير , لأنها ترتكب باسم الوطنية , باسم الأخلاق المتعالية , و باسم المصلحة العليا للدولة . يوضح لنا هذا لماذا أن كل تاريخ الدول القديمة والحديثة ليس إلا سلسلة من الجرائم المقززة , لم أن الملوك و الوزراء الحاليين و السابقين في كل البلاد – رجال الدولة , الدبلوماسيين , البيروقراطيين , و المحاربين – إذا حكم عليهم من وجهة نظر الأخلاق البسيطة و العدالة الإنسانية , فإنهم يستحقون المشانق و الأشغال الشاقة ألف مرة .
لأنه لا يوجد هناك إرهاب , وحشية , انتهاك للحرمات , شهادة زور , خداع , إجراءات شائنة , سرقة تبعث على السخرية , سرقة وقحة , أو خيانة , لم ترتكب و لا تزال ترتكب يوميا من قبل ممثلي الدولة , دون أي مبرر آخر سوى هذه العبارة , المطاطة , و الملائمة في بعض الأحيان و الرهيبة : منطق الدولة . عبارة رهيبة بالفعل ! لأنها قد أفسدت و شوهت عددا من الأشخاص في الدوائر الرسمية و في الطبقات الحاكمة في المجتمع أكثر من المسيحية نفسها . ما أن تقال ( أي هذه العبارة ) حتى يصمت كل شيء و يغيب عن النظر : الشرف , الاستقامة , العدالة , الحق , الرأفة نفسها تختفي و معها المنطق و الحس , يصبح الأسود أبيضا و الأبيض أسودا , يصبح الشنيع إنسانيا , و أكثر الجنايات خسة و أكثر الجرائم فظاعة أفعالا جديرة بالتقدير .
ما هو مسموح للدولة محظور على الفرد . هذا هو مبدأ كل الحكومات . لقد قالها ميكيافيلي , إن التاريخ إضافة إلى ممارسة كل الحكومات المعاصرة تبرهن على هذه النقطة . إن الجريمة شرط ضروري لوجود الدولة نفسها , و تشكل لذلك احتكارها الحصري , و الذي ينتج عنه أن الفرد الذي يجرؤ على ارتكاب جريمة هو مذنب بمعنى مزدوج : إنه مذنب أولا ضد الوعي الإنساني , و فوق كل شيء , إنه مذنب ضد الدولة بأن ينتحل لنفسه واحدة من أكثر امتيازاتها الثمينة .  


       الجمل- ترجمة : مازن كم الماز

بقلم : ميخائيل باكونين
نقلا عن  //flag.blackened.net/revolt/anarchists/bakunin.html 


 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...