أنا لا أفكر إذا أنا مواطن صالح

29-07-2007

أنا لا أفكر إذا أنا مواطن صالح

ـ1ـ يبدو أن فرنسا التي تفاخر دوماً بأنها «وطن المثقفين» وتُرضع مواطنيها شعار الفيلسوف «ديكارت»: «أنا أفكر، فأنا إذاً موجود!» قد بدأت تضيق ذرعاً بالمثقفين، وتبني قبراً لدفع شعار «ديكارت»، ومحرقة لإشعال النار بكتابه الرجيم «مقال في المنهج!».

بدأ الرئيس نيكولا ساركوزي عهده الجديد الذي سمّاه «القطيعة مع الماضي» حينما أعلن في مناظرة تلفزيونية، بكل صلف: «أنا لست منظراً، ولست مولعاً بالايديولوجيا، واعترف انني لست مثقفاً!»، وحينما تجرأت وزيرة ماليته كريستين لاغارد، وقالت في كلمة ألقتها في المجلس الوطني الفرنسي ـ البرلمان: انني أناشد الشعب الفرنسي أن يكف عن التفكير، وأن يشمر عن ساعديه، وأن يعمل، وأن يكسب المال، وأن يتمتع بالحياة. ما يتكدس في مكتباتنا من فلسفة وتنظير يكفينا لقرون طويلة! ولكن مثقفي فرنسا، العاطلين عن العمل، ثاروا وهاجوا وماجوا، وقال أحد كهنتهم «آلان فينلكر كراوت» في مقالة غاضبة: ما أغبى القول إنه ينبغي أن نفكر أقل. إذا حالفنا الحظ واتيح لنا أن نكرس حياتنا للتفكير، فهذا معناه اننا نعمل دون توقف طول الوقت، حتى ونحن نائمون، إذ يتطلب التفكير العذاب، والكثير من العرق، أكثر من الركض بالبنطال القصير في الغابات، كما يفعل رئيسنا ساركوزي، في تقليد سمج لرؤساء الولايات المتحدة... ولم يكن الكاهن الآخر هنري ليفي أقل غضباً حينما كتب: ما نسمعه اليوم من أعلى المنابر الرسمية يذكرني بهذيانات السكارى في الحانات والمواخير، هذه هي المرة الأولى في تاريخ فرنسا التي تتجرأ فيه مسؤولة على الدعوة الى إلغاء الفكر، أنا مناصر للولايات المتحدة، ومن الداعين الى اقتصاد السوق، وكان من المنتظر أن أصوت لـ ساركوزي، ولكن هذا الاحتقار للفكر والمفكرين جعلني أصوت ضده!. ‏

ـ2ـ ‏

المعزوفة المفضلة لأدبيات القطيعة مع الماضي، الموالية للعهد الساركوزي الجديد هي الإعلان عن «موت المثقف»، والتبرع بتوزيع «ورقة نعيته» مجاناً، وتؤكد مراكز الرصد أن أكثر القامات الثقافية قد استنفدت رصيدها، وأخلدت الى الصمت، بعد أن داهمتها الأحداث، واستغلق عليها فهمها أو تحليلها، بل إن بعض الأديبات أعلنت ان إرهابيين مجهولين قد اغتالوا المثقفين، وإن موتهم لم يكن طبيعياً.. ‏

ويبدو أن المثقف الشمولي الذي ينصّب نفسه مرشداً قد سحب من التداول، وحل محله «موظف الإعلان» و«مقدم البرامج الترفيهية» أو «مروج الصرعات الإعلامية»، إن المجتمع المعاصر ـ وهو سجين العجالة المفرطة ـ يقاطع كهنة الفكر، ويفضل عليهم «محترفي الإعلام السريع»، بعد أن انقرض دور الموجه الايديولوجي، وانطفأ الإيمان بدوره السياسي الملتزم. ‏

وكما يقول أحد المتحمسين لموت المثقفين، بول تيبو: الشيء الجديد في مجتمعاتنا هو الاعتماد على التسيير الذاتي من دون الاستعانة بكهنة التوجيه، الإنسان المعاصر يغتذي من عدة مصادر مجانية، والمعلوماتية توفر له كل شيء بشكل مذهل، ولم يعد بحاجة الى اميل زولا أو تولستوي ليقتدي بسلوكهما، وانما هو بحاجة الى مصلح التلفزيون أو منظف البلاليع.. ‏

ـ3ـ ‏

ولكن هذه الحملة على المثقفين ترافقها دعوة الى التخلص مما يسمى «الكسل الوطني» الذي دأبت الحركات اليسارية على ترسيخه، على انه «مكسب اجتماعي كبير»، في حين إنه ليس أكثر من عملية افساد اجتماعية، قائمة على استبخاس العمل، واعتباره وسيلة لقهر الإنسان وإذلاله، وكما قالت السيدة لاغارد وزيرة المال «المتأمركة»: أيهما أحسن أن يغادر الموظفون أعمالهم الى المقاهي والحانات، بدعوى تخفيف الإرهاق عنهم، أم تكليفهم بساعات اضافية، وقبض المزيد من التعويضات، لتحسين مستوى حياتهم، والتمتع بأوقات فراغهم الفضفاضة بشكل أحسن!. ‏

وهناك دعوة «ملتبسة» اخرى ترافق الحملة على المثقفين والمفكرين «الذين لا يعملون وانما يثرثرون ويخربون» هي عدم الخجل من الثراء، ومن النجاح المادي. لقد دأبت المنابر الثورية اليسارية على تلطيخ سمعة الأثرياء واتهامهم بالانحطاط الأخلاقي، وقد آن الأوان لكي يعاد الاعتبار لهم، وتشجيع «الكسالى» على معرفة القيمة الحقيقية للمال، والفوائد التي يقدمها لمن يحصل عليه. إن فكرة احترام الثراء التي لم يألفها المجتمع الفرنسي التقدمي أصبحت أكثر رواجاً بعد أن أعطى ساركوزي وطاقمه الأمثولة الصارخة لها. التحقيق الذي نشرته صحيفة «V.S.D» التي تصدر في عطلة الأسبوع يثير شهية الجيل الشاب الذي يتوجه إليه العهد الجديد، إذ كشف التحقيق عن موارد بعض الشخصيات المعروفة في المجتمع: 13 مليون يورو للاعب الكرة زيدان، 9 ملايين يورو للمغني هوليداي، في حين أن مجموع ما يتقاضاه رئيس الوزراء هو 700000، ورئيس الجمهورية 790000، ولكن استطلاعاً للرأي العام نشرت تفاصيله هذا الأسبوع يظهر أن الشعب الفرنسي يفضل أن يحصل على الثروة باليانصيب، لا العمل، ما يؤكد ـ كما يقول المنظرون ـ أن الكسل الوطني ما زال خصلة متأصلة في المجتمع الفرنسي. ‏

ـ 4 ـ ‏

فوجئ طلاب فرنسا الذين تقدموا إلى فحص البكالوريا بهذا السؤال في مادة الفلسفة: «يمتاز الفرنسي بتحليه بالروح الديكارتية، ما هذه الروح؟ ولماذا ساعدت على تطور المجتمع الفرنسي؟!» وقد أثار هذا السؤال التقليدي الكثير من دعاة «القطيعة» والمتحمسين «للعهد الجديد» بدعوى أنه «يسيء إلى النزاهة العلمية ويدعم التضليل الفلسفي المتوارث». ‏

يستشهد دعاة القطيعة بكتاب يحمل عنواناً استفزازياً: «ديكارت، هذا المفكر غير المجدي والمتناقض» لمؤلفه «جان فرانسوا روفيل»، ويتهم الفيلسوف بثلاثة ارتكابات شائنة، أولها أن الفيلسوف يصر على عدم الاستفادة من شواهد التجربة وعدم القدرة على الاعتراف بالتناقض، والإصرار على المكابرة، بعد إظهار الخطأ، وثانيها أن رفض «ديكارت» لصياغة فلسفة في الأخلاق عائد إلى خوفه من الافتراء عليه من جهة وانصياعه إلى الحكام من جهة أخرى، وهناك نص لـ«ديكارت» يقول: لا يحق إلا للحكام أو لمن يفوضهم الحكام الحديث عن الأخلاق، وتحديد سلوكات الآخرين...»، وثالثها انتهازية «ديكارت» الفاقعة، إذ يقول في رسالة وجهها إلى ولية عهد السويد الأميرة «اليزابيت»: يتوجب أن أنتصر على نفسي، أكثر من الانتصار على العالم، وأن أبدل رغباتي لا نظام العالم ويستنتج روفيل من هذه الارتكابات الشائنة الثلاثة ما يلي: إذا تمسك الفرنسيون بـ «ديكارت» فلأنه يجسد طباعهم خير تجسيد: انهم على وجه العموم، لا يعترفون بشواهد التجربة، ولا بالتناقض، ويصرون على مواقفهم، مهما كانت خاطئة، ثم انهم انتهازيون ومنافقون..! ‏

ـ5ـ ‏

يؤمن الحداثيون العرب، منذ بدايات النهضة ان ديكارت هو نبي العقلانية، وقد طالبونا بأن نقتدي بمنهجه قبل الدخول الى فردوس الحداثة، أجازوا لنا أن نشك بكل شيء، ولكنهم حذرونا بسخرية: هناك أمر لا قدرة لنا على الشك فيه هو الشك بنفسه وسلمونا الشعار الديكارتي المقدس، فشعرنا بأننا انتصرنا على الخرافة والتخلف، واننا تفولذنا، وتولد عندنا اليقين بأننا اقتحمنا أسوار الحداثة والمعاصرة، وما علينا إلاّ أن نخوض معركة ضارية ضد ترسبات البدائية في تفكيرنا وسلوكنا. ‏

وها نحن نكتشف الآن، عبر «صدمة القطيعة مع الماضي» التي يتزعمها ساركوزي ان التفكير عاهة، وانه يجب علينا أن ننفتح على ثلاثة فضاءات: التخلي عن التفكير على نحو ما كان يمارسه قدامى الفلاسفة والحكماء أولاً، واجتثاث الكسل الاجتماعي الذي تراكم في شعورنا ولا شعورنا، والانفتاح على العمل المستمر المضني، لا التغني بالفراغ والتأمل اللا مجدي ثانياً، وتقديس الجري وراء الاثراء والتنعم بما يمكن أن يوفره لنا المال من متع وملذات ومكاسب. ‏

ـ6ـ ‏

والمفارقة انه إذا كان رئيس فرنسا الجديد يفاخر بأنه ليس من المثقفين، فإن الرؤساء السابقين كانوا ينافقون للمثقفين، وينتحلون اهتمامات ثقافية: كان جورج بومبيدو معلماً وقد ألّف كتاباً عن الشعر المعاصر لا يزال يدرس في المدارس حتى الآن، وفرانسوا ميتران كان مصراً على أنه أديب قبل أن يكون سياسياً، «فاليري جيسكار ديستان» انتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية بسبب مؤلفاته الكثيرة، أما شيراك، فعلى الرغم من أنه مولع باحتساء البيرة الألمانية، إلاّ أنه معروف بأنه مرجع في الثقافة الآسيوية. ‏

ـ7ـ ‏

في ندوة تلفزيونية شارك فيها عدد من المثقفين، قال: «آلان فينكلر كروات» الذي يعتبر من المارقين الذين خانوا انتماءهم الاشتراكي وصوتوا لـ«ساركوزي»: الحضارة الغربية حضارة مشّائين، من سقراط وأرسطو الى جايرجر وسارتر، ولم تكن حضارة جوكينغ «jogging» «أي الركض بالشورت» ويجب على ساركوزي أن يتوقف عن تقليد ساكني البيت الأبيض. والمطلوب الانحياز الى سقراط لا الى مهرجي البيت الأبيض!. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...