أمل دنقل مات قبل أن يكمل كلمته عن (حرب البسوس)

26-04-2011

أمل دنقل مات قبل أن يكمل كلمته عن (حرب البسوس)

«في الثالثة صباحاً حاول نزع حقنة الغلوكوز من يده، رفضت الممرضة وشقيقه نزع الحقنة.. لم يكن يقوى على الصراخ في وجوههم نظر إلي كانت عيناه تطلب مني الراحة. نزعت حقنة الغلوكوز من يده: يمكنك أن ترتاح. أغمض عينيه في هدوء ودخل في غيبوبة أخيرة، كان وجهه هادئاً وهم يغلقون عينيه وكان هدوئي مستحيلاً وأنا أفتح عيني، وحده السرطان كان يصرخ، ووحده الموت كان يبكي قسوته» بهذه العبارات المؤثرة أنهت الكاتبة والصحفية عبلة الرويني كتابها الذي يحمل عنوان (الجنوبي) والذي روت فيه رحلتها مع الشاعر أمل دنقل زوجاً وإنساناً. ودنقل هو الشاعر العربي الوحيد الذي استطاع البكاء بين يدي زرقاء اليمامة بعد نكسة عام 1967.
 
لقد مر دنقل شهاباً في سماء الحياة والشعر ولكن ما ترك من إرث شعري كفل له الحضور والاستمرار في المشهد الشعري العربي.
ولد أمل دنقل عام 1940 في إحدى قرى الصعيد وقد عرف اليتم مبكراً حيث توفي والده وهو في سن العاشرة تاركاً له مكتبة زاخرة بكتب الفقه والشريعة والتفسير والتراث العربي وقد كانت مصدر ثقافته الأولى، ترك كلية الآداب بجامعة القاهرة وهو في السنة الأولى وتنقل بين عدة وظائف.
تقول عنه الرويني: فوضوي يحكمه المنطق، بسيط في تركيبة شديدة، صريح وخفي في آن واحد، انفعالي متطرف في جرأة ووضوح، وكتوم لا تدرك ما في داخله أبداً. يملأ الأماكن ضجيجاً وصخباً وسخرية وضحكاً ومزاحاً.. صامت إلى حد الشرود يفكر مرتين وثلاثاً في ردود أفعاله وأفعال الآخرين، حزين حزناً لا ينتهي، استعراضي يتيه في نفسه في كبرياء لافت للانتظار.. بسيط بساطة طبيعية يخجل معها إذا أطريته وأطريت شعره..
اعتبره الناقد المصري المعروف جابر عصفور «واحداً من أبرز الشعراء العرب في عالم ما بعد كارثة عام 1967 ولا نحتسب المكانة في هذا السياق بالكم الشعري الذي كتبه الشاعر أو الدواوين التي أصدرها فأعمال أمل دنقل قليلة مثل عمره القصير ولكنها أعمال متميزة بما تنطوي عليه من إنجاز ودلالة».
وكان دنقل قد أصدر ثلاثة دواوين شعرية حيث بكى في ديوانه الأول البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» بكى الهزيمة التي حلت بالعرب وفيها أعاد دنقل إلى الأذهان مأساة (زرقاء اليمامة) التي كانت حادة البصر وقد حذرت قومها من خطر داهم فلم يصدقوها يقول دنقل:
أيتها العرافة المقدسة
جئت إليك مثخناً بالطعنات والدماء
أزحف في معاطف القتلى وفوق الجثث المكدسة
منكسر السيف مغبر الجبين والأعضاء
اسأل يا زرقاء
كيف حملت العار
ثم مشيت دون أن أقتل نفسي دون أن أنهار
ودون أن يسقط لحمي من غبار التربة المدنسة
تسرد عبلة الرويني قصة لقائها الأول بأمل في عام 1973 بأحد مقاهي القاهرة حيث ذهبت لإجراء حوار صحفي معه كان آخر حوار ينشر معه في الصحافة المصرية آنذاك ثم تروي تطور العلاقة التي جمعتهما وانتهت بالزواج إضافة إلى الرسائل التي تبادلتها معه والعالم البرجوازي الذي جاءت منه إلى عالم دنقل المثقل بالفقر والحرمان: «كنت منذ البداية أمتلك قلباً مستعداً لأن يبيع العالم كله من أجل هذا الشاعر الذي يملك بنطلوناً واحداً أسود ممزقاً..».
كان دنقل ينتمي إلى عائلة قوية وثرية في صعيد مصر لكنه فقد كل شيء وهو طفل «علمه ضياع إرث أبيه وهو طفل على أيدي أعمامه أن يهب أحلامه للفقراء وأن يخاصم الظلم ويخاصم العدل الذي لم يتحقق» وتضيف: كان يحمل بؤس الفقراء المطحونين ويمتلك معهم الكثير من المعاناة والعذابات الطويلة.
تؤكد الرويني أن الحرية «كانت هي الملمح المهم والمميز لشخصية أمل وهي جزء أساسي في تكوينه الفكري والسلوكي» وتورد الكثير من التفاصيل في حياتهما بعد الزواج «أكثر من يوم يمر دون أن نمتلك مليماً واحداً في المنزل، أضحك وأقول صادقة: الطعام ليس كل شيء فلدينا الكثير من الكتب، والكثير من الأشعار والكثير من الأغاني» وتردف: كان الفقر في منزلنا يحولنا إلى أثرياء وكان الفقر يضاعف احترامي لهذا الشاعر الذي يمكنه كثيراً النوم جائعاً بينما يستحيل عليه النوم يوماً متنازلاً أو مساوماً أو مصالحاً وما أكثر المتنازلين العارضين أنفسهم في أسواق البيع والشراء ينامون وبطونهم تمتلئ بالتخمة وعقولهم بالمهانة.
وتناولت الرويني في كتابها اللحظات التي كانت تولد فيها قصائد أمل: «.. كنت أحياناً أشعر بالخوف والارتباك فما أفعله وفي بيتنا قصيدة توشك أن تجيء فأنام خوفاً من أن يأخذ صمتي شكل المراقبة أو الانتظار العصبي للقصيدة».
ولكن أمل يوقظها «هل تحبين أن تستمعي إلى قصيدة؟»
في عام 1972 كتب:
أيها الواقفون على حافة المذبحة
اشهروا الأسلحة
سقط الموت وانفرط القلب كالمسبحة
والدم انساب فوق الوشاح
المنازل أضرحة
والزنازن أضرحة
والمدى أضرحة
فارفعوا الأسلحة
واتبعوني
أنا ندم الغد والبارحة
رايتي عظمتان وجمجمة
وشعاري: الصباح
وعلى لسان كليب بن وائل كتب:
لا تصالح
إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة
النجوم لميقاتها
والطيور لأصواتها
والرمال لذراتها
والقتيل
لطفلته الناطرة
ثم تبدأ عبلة الرويني في سرد اللحظات الأكثر إيلاماً في حياة أمل وحياتها ففي أيلول 1979 بدأ السرطان يزحف في جسد دنقل النحيل «انتابتني حالة من الرقة البالغة في التعامل مع أمل ربما هي الخوف» وتورد تفاصيل قاسية عن تلك المحنة وخاصة لجهة توفير المال اللازم لإجراء أول عملية جراحية التي كانت «تعني لدينا الرعب الشديد» ثم انتشار المرض في جسده وتحويله إلى معهد السرطان «لم يستطع أمل السير في شارع منزلنا القصير.. كانت قدمه اليسرى التي ظل الألم فيها طوال عام يزداد يوماً بعد يوم تمنعه من السير فتوقف ليستند إلى أكثر من حجر وأكثر من سيارة واقفة (تحتشد القاهرة بملايين السيارات الفارهة بينما أكبر شعرائها يخطو بقدم واحدة إلى معهد السرطان».
بعد دخوله المشفى بدأ الاهتمام المزيف بدنقل:
سنة تمضي وأخرى سوف تأتي
فمتى يقبل موتي
قبل أن أصبح مثل الصقر
صقراً مستباحاً
كان أمل يبكي العجز والمرض والعذاب رغم باقات الورد التي تحيطه:
كل باقة
بين إغماءة وإفاقة
تتنفس مثلي بالكاد ثانية ثانيهْ
وعلى صدرها حملت راضيهْ
اسم قاتلها ببطاقهْ
وقد شهدت غرفته في معهد السرطان ولادة 6 قصائد منها قصيدة (الجنوبي) الشهيرة:
إن الجنوبي يا سيدي
يشتهي أن يكون الذي لم يكنه
يشتهي أن يلاقي اثنتين:
الحقيقة والأوجه الغائبة
توفي أمل دنقل في عام 1983 قبل أن يقول كل شيء لديه عن (حرب البسوس) ولكنه استطاع البكاء بين يدي زرقاء اليمامة.

محمد أمين

المصدر: الوطن

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...