«حين أصبح عالمنا مسيحياً» لبول فاين: التاريخ كمصادفة

23-02-2016

«حين أصبح عالمنا مسيحياً» لبول فاين: التاريخ كمصادفة

في كتابه «حين أصبح عالمنا مسيحياً»، يدافع المؤرخ الفرنسي البارز بول فاين عن طرح قليل الشعبية بين المؤرخين، وهو الدور الجذري الذي تلعبه المصادفات والنزوات الشخصية في مسار التاريخ. هو يسلط الضوء تحديداً على الدور الهائل الذي لعبته في حدث ولادة العالم المسيحي من رحم الإمبراطورية الرومانية.

بنظره، لم تكن هذه الولادة ممكنة لولا حدث غير متوقع تمثل باعتناق الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول للمسيحية وعمله الحثيث من أجل نشر المسيحية في أرجاء الإمبراطورية، وهذا الخيار لا يمكن فهمه، من وجهة نظر غير المؤمن، إلا بوصفه نزوة شخصية، فهو كان مخالفاً لمصالح الإمبراطور السياسية ولمصالح السلطة التي يمثلها. كان عدد المسيحيين يتراوح وقتها بين 5 % و10% من سكان الإمبراطورية وكانوا موضع ارتياب وخشية من قبل السلطات كما من قبل الغالبية الوثنية.

لم تكن الوثنية ديناً أو عقيدة بقدر ما كانت مجموعة غير منتظمة من المعتقدات والخرافات الشعبية، والخلاف بينها وبين المسيحية لم يكن بين ديانتين بقدر ما كان بين مفهومين متباينين جذرياً للحيز الديني ولعلاقته بالحيز العام. كان القانون الروماني الوثني يكفل حرية الضمير والعبادة ومع كل أراض جديدة تُضَم إلى الإمبراطورية كان يتم استقدام آلهة جديدة إلى معبد روما لتنضم إلى عائلة الآلهة القومية. لم تكن الآلهة الوثنية غيورة في علاقتها بعابديها، ولا كانت تتنافس فيما بينها، بل كانت اللياقة في عرف الوثنيين تتطلب من كل عابد التسليم بأن إله جاره حقيقي بقدر إلهه. ذلك أن الإله الوثني لم يكن يطالب عابده بشيء من حيث المبدأ ولا كان يلزم نفسه بأي شيء اتجاهه، بل كانت العلاقة بين الإثنين مبنية على المصالح والخدمات المتبادلة : كان الوثني يكتفي بتقديم العبادة والأضاحي لإلهه آملاً منه ردّ الجميل.

مؤسسات خدماتية

على هذا النحو، كانت المعابد الوثنية تعمل كمؤسسات خدماتية خاصة ولم تكن تعين نفسها وليةً على المجتمع، أي أن وظيفة الكاهن الوثني كانت، وإلى حد بعيد، أقرب إلى دور المنجمة «أم عصام» منه إلى الدور التربوي للخوري أو الإمام. أما النخبة الرومانية المثقفة فكانت تنظر في الغالب الأعم إلى العبادات والطقوس الوثنية بوصفها خرافات وفولكور شعبي، وكان الفلاسفة والمفكرين والشعراء الرومان في غالبيتهم العظمى توحيديين ربوبيين يجد إيمانهم اللاديني جذوره في الفلسفة الإغريقية وفي فكرة مجردة عن الإله بوصفه مبدأ أول. بالمقابل، شكلت الكنيسة مجتمعاً وجسماً تنظيمياً رديفاً يشغل فيه الديني كل الحيز العام، ما أثار ارتياب المجتمع الروماني والسلطات الرومانية التي استشعرت لديها نزوعاً انفصالياً، وهو انطباع رسخه نأي المسيحيين بأنفسهم عن المراسم والطقوس القومية التي اعتبروها مخالفة لمعتقداتهم أو تتضمن إشراكاً بإلههم. لم يكن المجتمع الروماني الوثني متديناً أو متعصباً لمعتقداته، لكن رهاب الآخر والمختلف متجذر في الطبيعة البشرية وليس اختصاصاً حصرياً للجماعات الدينية.

كان المسيحيون مختلفون وعصيّون على الفهم وهذا كان يكفي لوحده لإثارة ارتياب وعدائية الرومانيين الوثنيين حيالهم. لكن تجدر الإشارة أن المسيحيين لم يتعرضوا، بحسب المؤرخين الغربيين المعاصرين، إلا لاضطهاد مرحلي وموضعي في روما الوثنية، اي أنه لم يحصل إلا خلال فترات قصيرة ومتقطعة وفي مواضع منعزلة من الإمبراطورية. انطلاقاً من هذه المعطيات، يستنتج فاين بأن الإمبراطور قسطنطين لم يكن له أي مصلحة دنيوية باعتناق ديانة مبغوضة من قبل الغالبية العظمى من رعاياه ولا بوضع كنيستها المتهمة بالانفصالية في قلب الدولة الرومانية، بل العكس تماماً. في هذا الإطار، هو يعتبر أن اي مراقب في المرحلة السابقة على حكم قسطنطين، حتى ولو كان بحوذته كل الأدوات العلمية الحديثة، كان ليعتبر احتمال سيادة المسيحية على الإمبراطورية الرومانية مستبعداً أوقريباً من الاستحالة، وذلك لأنه كان بالفعل مستبعداً علمياً ومنطقياً، لكن التاريخ لا يتبع قوانين ثابتة ولا يمكن التنبؤ بمساره أكثر من السلوك الفردي.

يورد فاين مصادفة أخرى لعبت دوراً حاسماً في انتصار المسيحية. بعد موت الإمبراطور يوليانوس المرتد الذي حاول إعادة انعاش الوثنية، كان على الجنرالات الرومان أن يختاروا بين مرشحَين للعرش، أحدهما وثني والآخر مسيحي. لكن نسبة المسيحيين إلى الوثنيين كانت متساوية تقريباً لدى المعسكرين الذين لم ينتظما وفق العامل الديني، بل وفق مصالح وولاءات لا علاقة لها به. وبالتالي كانت مسيحية الإمبراطور الذي وقع عليه الخيار مجرد مصادفة، لكنها مصادفة ما كان ليقدّر ربما للمسيحية أن تنتصر لولاها.

زكي بيضون

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...