«حمام الهنا» و«صح النوم» وجه السعد على الفضائيات

14-07-2009

«حمام الهنا» و«صح النوم» وجه السعد على الفضائيات

مع تولي إدارتها الجديدة مهامها، تتصرف قناة «الدنيا» الفضائية كما لو أنها تبدأ إرسالها من جديد وفق سياسة يغلب عليها الميل إلى عرض المزيد من برامج المنوعات والمسلسلات والأفلام. وخير ما وجدت القناة أن من شأنه أن يعيد إليها جمهورها كان مسلسلات الأبيض والأسود الخاصة بالثنائي دريد لحام ونهاد قلعي، فبدأت بـ«حمام الهنا» وها هي تبدأ بعرض «صح النوم». كانت القناة الليبية قد سلكت الطريق نفسها حين اختارت أن تعرض المسلسلات ذاتها عند انطلاقتها لأول مرة منذ سنوات ومثلها فعلت قنوات أخرى، بينما كان السؤال حول عدم عرض هذه الأعمال عند انطلاق البث التجريبي لقناة الدراما السورية لا يغيب عن الصحافيين، وكانت الأجوبة بغالبيتها تنتهي عند تصريح: «أنها متروكة كي تعرض عند انطلاقة البث المستقر للقناة». من «صح النوم».
يبدو التعويل على عرض تلك المسلسلات القديمة كسبيل لاستقطاب الجمهور رغم مرور نحو أربعين عاماً على إنتاجها، يبدو مثيراً للدهشة. فهي تتفوق بتقنياتها الفنية البدائية على عشرات الأعمال التي أنتجت سنوياَ خلال الأربعين سنة الماضية مدعّمة بتكنولوجيا فنية عالية. وهو الأمر الذي يستدعي ضرورة التوقف ودراسة طبيعة علاقتها الحميمة مع الناس وقدرتها على الرسوخ في ذاكرتهم والتأثير فيها، كمنطلق للإجابة عن سؤال ما الذي يريده الجمهور.
يبدو من المفيد حسم الجدل حول مدى قدرة التقنية الحديثة والإبهار البصري والتكنولوجيا العالية في تعويم اللعبة الفنية، وكيف انها أصبحت تلعب دوراً أساسياً في جذب المشاهد لكنها ليست أبداً وحدها سر النجاح الجماهيري. تقنيات الإخراج ونوعية الصورة والكادر تبهر العين ولكنها لا تستولي على القلب، وهي تشغل البال وتسرق التركيز وقت عرضها لكنها لا ترسخ في الذاكرة إلا في حالات قليلة، وإلا كيف تفوقت أعمال دريد ونهاد التي ولدت مع بواكير إنتاجات الدراما السورية ونفذت بالأبيض والأسود وبتقنيات فنية بدائية على كل ما قدمته الدراما الجديدة؟
ربما يرى البعض أن المضمون هو الأساس وليس الشكل. لكن أعمالاً فنية كثيرة تولد اليوم من رحم الشارع وتتبنى قضاياه، إلا انها لم تملك قوة تأثير أعمال السبعينيات التي قدمها دريد ونهاد ورفاقهما. ببساطة إذا، نجحت أعمال السبعينيات بتقديم نفسها بعفوية وقاربت الشارع من دون أن تصر في كل مرة أن تطل برأسها لتقول لنا إنها تعالج مشكلات الناس وتعبر عنهم، كما ان تلك الأعمال لم تسقط شرط المتعة من أولويات مهامها. فالمتعة كانت دائماً في طليعة الأولويات، لذلك كانت تبدي في كل مرة مرونة في التعامل مع البناء الدرامي للعمل، فتقاربه حيناً من خلال الكوميديا وأحياناً من الدراما المفبركة ومرة أخرى في سياق «المونولوج» أو الغناء الشعبي الانتقادي. في المقارنة، يبدو ان معظم أعمال الدراما السورية الجديدة، يصر أن يقارب قضايا أولاد الشارع مثلاً من منظار أعلى منهم أو الحديث عن الطبقة الفقيرة من وجهة تنظيرية.. فيأخذ بذلك دور ماري انطوانيت حين تعاطفت مع جوع الناس وغياب خبزهم لكنها دعتهم إلى أكل البسكويت!
من المسلم به ان أعمال دريد ونهاد تميزت بعفوية الطرح ومصداقيته والتصاقه مع الناس وهمومها وهواجسها اليومية، هذه الهواجس التي كانت لا تتعلق بالبيئة الشامية وحدها بل بكل مشاهد تابع العمل أينما كان. هنا يكمن السر في الفهم البسيط (بعيداً عن الفذلكات) لدور الدراما التلفزيونية في تحقيق شرط المتعة أولاً. إذ ان شخصيات أعمال دريد لحام ونهاد قلعي ولدت من رحم الشارع، وكانت أول من اختبر معنى أن تكون الدراما مطلة على واقع الناس اليومي، ولعل في السقوط الكبير والسريع لشخصية «كارلوس» المكسيكي التي ظهر من خلالها الفنان دريد لحام لأول مرة، كان الدرس الأقسى في كيفية بناء شخصية ترسخ في ذاكرة الناس. وانطلاقاً من الاستفادة من درس سقوط «كارلوس» ولدت شخصية «غوار الطوشة»، «الكاركتر» الأشهر في تاريخ الدراما العربية، وقد كشف الفنان دريد لحام، أكثر من مرة، سر خلودها في ذاكرة الناس حين قال إنه لم يخترع شخصية «غوار الطوشة» بل عثر عليها في إحدى حارات دمشق الشعبية. بالمثل كان من الممكن أن نلتقط ظلالاً كثيرة ومرجعيات حقيقية في الشارع لمعظم شخصيات مسلسلات لحام وقلعي والتي حملت بالضرورة ملامح ابن الشارع كاملة: «غوار الطوشة» و«حسني البورظان» و«أبو صياح»، و «أبوعنتر» و«بدري بك أبو كلبشة» و«فطوم حيص بيص» و«ياسينو» و«أبو كاسم» بائع الخيار، و«اللحام أبو رياح» وسواها..
هكذا، وبعد مرور عقود يبدو ان المسلسلات هذه كانت النواة أو الاقتراح الأول لتقديم الحارة الشامية إلى العالم العربي والتي نشهد اليوم ولادتها على نحو مغاير في أعمال مثل «باب الحارة» و«بيت جدي» و«أهل الراية» وغيرها.. غير ان بعض هذه المسلسلات الحديثة أحدث انقساماً حول ما يقدمه عن صورة الشام بين مؤيد ورافض، بينما وحدت أعمال دريد ونهاد الجمهور والنقاد حول معنى أن يكون العمل كوميدياً وأن يكون مغرقاً في محليته مخلصاً لتفاصيل البيئة التي يصورها وقادراً على الانفتاح وملاقاة هواجس بيئة أخرى..
ما قيل لا يقلل من قيمة ما يقدم اليوم، لكنه يلفت إلى ضرورة ولادة النص من رحم الشارع نصاً وتنفيذاً وتفكيراً من دون أن نسقط شرط المتعة، وإذا وضعنا نصب أعيننا اليوم مسلسلي «الانتظار» و« بقعة ضوء» في أجزائهما الأولى نصل إلى قناعة مفادها انه ما زال بوسعنا أن نفعلها وأن ننتج أعمالاً تذكر بعد عقود.. لكننا لا نفعل.

ماهر منصور

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...