«السلطان المنكسر»: جيش ضعيف لتعزيز الاستئثار!

06-08-2016

«السلطان المنكسر»: جيش ضعيف لتعزيز الاستئثار!

صباح اليوم التالي للإنقلاب العسكري ولدى وصوله إلى مطار اسطنبول قادما من مرمريس، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن المحاولة كانت «لطفا من الله». ومن بعد ذلك أغدق الرئيس التركي ألطافه على خصومه. فكان أول عمل هو إعلان حال الطوارئ وتفويض الحكومة التشريع وإصدار «القرارات ذات قوة القانون». وما كان يفعله قادة الانقلابات العسكرية السابقة من تعليق للدستور وحل البرلمان وإصدار الأحكام الاستثنائية، تفعله الآن الحكومة التركية. البرلمان خارج الخدمة وأحكام الدستور رهن مزاج السلطة السياسية من دون غيرها.عنصر من القوات الخاصة في الشرطة التركية يحرس القصر الرئاسي في أنقرة أمس (رويترز)
انفتاح الحكومة وأردوغان تحديدا على المعارضة لم يكن لطفا إلهيا بل كان استمرارا لنهج اقتناص الفرص والإستعانة بصديق لا يلبث ان يتخلى عنه.
لم تكن الحكومة بقادرة على رفض تحية حسن النية لدى المعارضة في التنديد بالانقلاب منذ اللحظة الأولى. لكن الثبات في النهج السابق كان في استبعاد حزب الشعوب الديموقراطي الكردي عن لقاءات «الانفتاح وحسن النية». دعا أردوغان زعيمي حزب الشعب الجمهوري كمال كيليتشدار أوغلو وحزب الحركة القومية دولت باهتشلي، لكنه استبعد رئيس الحزب الكردي صلاح الدين ديميرطاش. ويوم غد الأحد دعا أردوغان كيليتشدار اوغلو وباهتشلي لمشاركته في مخاطبة الجماهير في المهرجان الذي سينهي الاعتصامات اليومية في الشوارع ضد الانقلاب. لكن أردوغان أيضا لم يدع ديميرطاش للمشاركة في إلقاء كلمة. في حديث سابق لأحد زعماء حزب العمال الكردستاني أن كل شيء في تركيا يمكن أن يتغير إلا إنكار الهوية الكردية.

من اللطف الإلهي إلى المحاسبة الإلهية
 في «مراجعة» نادرة للذات اعترف أردوغان أنه أخطأ في مد يد العون لجماعة فتح الله غولن. ودعا الله لأن يحاسبه كما دعا الأمة لأن تحاسبه.
سيحاسب الله الجميع في الآخرة لكن هل ستحاسب الأمة الجميع في الدنيا وفي صندوقة الاقتراع او خارج صندوقة الاقتراع؟. الجيش التركي او مجموعة من داخله نهضت لمحاسبة السلطة السياسية ولم تنجح. صندوقة الاقتراع حاسبت أردوغان في انتخابات السابع من حزيران 2015 ولكنه إنقض على النتائج وأفشل تشكيل حكومة إئتلافية وذهب الى انتخابات ثانية بعد أربعة أشهر في ظل حرب مفتوحة، لا تزال حتى الآن، ضد الأكراد مهددا بالقتل والدم والتخويف كل من لا يقول بأن الاستقرار في تركيا رهن بتفرد الحزب الحاكم بالسلطة. فمن يحاسب الحاكم هنا على الانقلاب على نتائج انتخابات تشريعية وشرعية؟ ومن يحاسب الحاكم على انتهاكه للدستور عندما قال بأنه تغير وبات رئاسيا فيما هو برلماني كما هو وارد في الدستور؟.
اليوم يعلق أردوغان كل أخطائه الكثيرة على شماعة جماعة فتح الله غولن. كل ما جرى في تركيا وفقا لما تكشفه «اعترافات» الانقلابيين كان بتدبير من فتح الله غولن من مؤامرة أرغينيكون إلى إفشال المفاوضات مع حزب العمال الكردستاني وكشف فضيحة الفساد وصولا إلى التلاعب بنتائج مباريات كرة القدم وإسقاط الطائرة الروسية.
كانوا بحسب أردوغان في كل مكان وفي كل مؤسسة وزاوية. تحول غولن إلى الشيطان بذاته. لكن «الملاك» أردوغان مع ذلك كان راضيا جدا وقابلا بلطف الله عليه كل تلك السنوات الغولينية. حتى إذا حانت لحظة التفرد بالسلطة دخل في العام 2013 في صراعه الكبير مع شريكه الاسلامي وصنّف جماعته بالإرهابية.
بين ان تكون المحاولة الانقلابية لطفا من الله وبين دعوة الأمة لتغفر له والله ليحاسبه ثمة كذلك مكان لكلام كثير.
يبدي أردوغان حتى اللحظة مرونة في التعامل مع المعارضة. لم يشر حتى الآن إلى الرغبة في النظام الرئاسي متلافيا تفجير الصاعقة الأكبر التي ستواجهه. كذلك يواصل دعوة المعارضة، ماعدا الأكراد طبعا، إلى مشاركته في المهرجانات وإظهار «وحدة الصف» الوطني تجاه الانقلاب على الشرعية ومؤامرات الخارج لإسقاطه وإضعاف تركيا.
لكن حقيقة المواقف تظهر في زلات اللسان حيث أعلن أردوغان انه سيعيد بناء الثكنة العثمانية القديمة في حديقة غيزي وهو المشروع الذي فجر انتفاضة غيزي قبل ثلاث سنوات وكانت أول انتفاضة شعبية بوجه أردوغان. بل إن أردوغان قال قبل ايام «لن نقيم الثكنة إلا هناك». هذا التحدي ليس من تفسير له في هذه المرحلة إلا بان أردوغان لم يغادره الشعور بالحنق والغضب من أول تحرك هزّ حكمه وبأن أردوغان يمالق ويتكتك ولكنه لا يستسلم في انتظار الفرصة المناسبة. وليس أبلغ من النهج الاستئثاري هو التفرد في اتخاذ القرارات الحكومية بشأن كل ما يجري من دون التنسيق مع المعارضة وبما يتجاوز قانون حال الطوارئ الذي منح الحكومة صلاحيات استثنائية ومطلقة. أي ان أردوغان لا يريد من المعارضة سوى «صورة» (يبدو انها لعجزها قابلة بها حتى الآن) فيما التدابير الميدانية له وحده، ليكون حالها بعد ذلك كحال عبدالله غول وأحمد داود أوغلو وفتح الله غولن، حال الثور الأبيض الذي أكل في الأساس يوم أكل الثور الأسود.
يريد أردوغان ان يعلن براءته من كل الموبقات السابقة فيلصقها بجماعة فتح الله غولن. ولكن لو افترضنا أن كل تلك الممارسات كانت من عمل غولن فهذا يعني واحدا من شيئين: إما أن أردوغان كان مثل الزوج المخدوع ولا يستحق بالتالي أن يستمر رأسا للسلطة، وإما انه كان يعرف، وهذا الأكيد، ويستفيد منها لغاياته وهذا يجعله بالتالي شريكا لما يسميه مؤامرات غولن ويعرضه للمحاسبة والمساءلة من قبل الناس التي بات عليها اليوم أن تقرر وتبدي رأيها في صندوقة الاقتراع خارج اي ترهيب وترويع.

الحجّاج وإعادة بناء الجيش
 هذه من المرات القليلة في التاريخ التركي التي يتعرض فيها الجيش إلى إعادة بناء جذرية. لكنها أقرب إلى «قطاف الحجاج بن يوسف» منها إلى أي أسس علمية واستراتيجية تقوي الجيش ولا تضعفه.
فبعد تصفية الجيش الانكشاري في العام 1826 على يد السلطان محمود الثاني، ومن ثم إعادة بناء الجيش في عهد اتاتورك بعد انتهاء حرب التحرير الوطنية، هاهو الجيش التركي يخضع للمرة الثالثة في تاريخه لإعادة هيكلة لا يعرف أحد منذ الآن الأثر الذي ستتركه على بنية الجيش وقدراته في الداخل وفي الخارج.
رئيس الاركان السابق إيلكير باشبوغ (2008-2010) أدلى في حوار تلفزيوني بمواقف في غاية الأهمية. باشبوغ كان اعتقل قبل ثلاث سنوات فقط في عهد أردوغان بتهمة التآمر مع تنظيم أرغينيكون للإطاحة به وحكم بالمؤبد وعاد القضاء لإطلاق سراحه بعد ثمانية أشهر.
اعتبر باشبوغ أن ما جرى لم يكن محاولة انقلابية بل تمرد من قبل مجموعة من الضباط. وان الولايات المتحدة لا يمكن إلا ان تكون على علم بالانقلاب نظرا لأن غولن مقيم في الولايات المتحدة. ويقول باشبوغ إن الهدف من التمرد كان ضرب الجيش التركي وذلك بغاية إعادة رسم الحدود ولاسيما في سوريا (في إشارة إلى الكيان الكردي). ويقول إن الذين دفعوا إلى القيام بهذا الانقلاب كانوا يعرفون أنه سيفشل وأن الهدف هو تمزيق الجيش التركي. وباستثناء أربكان فإن فتح الله غولن نال دعما من طورغوت أوزال وبولنت أجاويد ومن أردوغان. لذلك فإن على المسؤولين في الدولة ان يشخصوا الوضع في الإطار الصحيح خارج اي انفعالات.
وحمّل باشبوغ الاستخبارات التركية مسؤولية عدم اكتشاف عناصر دخيلة او منتمية لغولن او غيره داخل الجيش فهذه هي مسؤوليتها وليست مسؤولية الجيش وكل التقارير الاستخباراتية كانت تشير إلى أن الجيش نظيف من عناصر تابعة لفتح الله غولن.
لكن باشبوغ انتقد بشدة اجراءات الحكومة بإلحاق قادة القوات الجوية والبرية والبحرية لوزير الدفاع فيما رئيس الأركان تابع لرئيس الحكومة. لأن هذا يجعل المرجعيات المقررة موزعة ويجعل رئيس الأركان الأعلى رتبة هو الأقل صلاحية. هذا يشتت قوة الجيش وخطير جدا ولا يقويه بل يزيده ضعفا.
كذلك يعترض باشبوغ على إغلاق المدارس الحربية. ويقول إن «الاغلاق لن يحل مشكلة وهي إرث موجود منذ العهد العثماني. وهي شريان الحياة للجيش”.
ويرى الجنرال المتقاعد علي أر أن كسر حلقة الأوامر العمودية هي مثل تخريب الجهاز العصبي للإنسان سوف يكون كارثة على الجيش التركي. ولا يمكن القيام بمثل هذا التغيير البنيوي في الجيش. ويقول علي أر إنه إذا كان لا بد من إغلاق المؤسسات التابعة لفتح الله غولن فلا بد أيضا من إغلاق السلطة السياسية التي كانت المسؤولة عن تنشئة هذا الجيل من الضباط. ويؤكد على أن توزع مرجعيات الأمرة في الجيش على ثلاث جهات من وزير الدفاع الى رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية امر لا يمكن القبول به.
وفي إطار التغييرات البنيوية التي يدخلها حزب العدالة والتنمية إلى الجيش فإن الخبراء يطرحون أسئلة عن موقف الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي حيث أن المنظومة العسكرية التركية لا تتحرك من دون تنسيق مع الحلف سواء بالتخطيط او بالهيكلية أو بالتسليح وما إذا كانت التغييرات تخدم العقيدة الأطلسية. وفي حال كانت هناك اعتراضات أطلسية فإن السؤال عما إذا كان التغيير سيمضي قدما أم لا.
تدخل تركيا مع حملة التصفية الشاملة في الجيش أفقيا وعاموديا مرحلة تعقب كل انقلاب او محاولة انقلاب عسكري. وبدلا من نجاح الانقلاب وترؤس جنرال عسكري البلاد وما كان سيقوم به من حملات تصفية شاملة، فإن فشل المحاولة أفضى إلى تزعم «جنرال مدني» حملات التطهير الشاملة هذه.
لم تقتصر حملة التطهير الأردوغانية كما هو معروف،على المؤسسة العسكرية فقط إذ إن بن علي يلديريم رئيس الحكومة سأل رئيس الاستخبارات التركية حاقان فيدان لماذا لم يبلغه ويبلغ رئيس الجمهورية بالانقلاب ساعة ورود إخبار بذلك الساعة الثالثة والنصف بعد ظهر الجمعة ولم يبلغهم إلا في الساعة التاسعة ليلا بعدما كاد الجميع يكون على علم به؟ يقول يلديريم إن حاقان فيدان لم يجب على السؤال. لم يكن عنده جواب لا مقنع ولا غير مقنع.
الطفل المدلل لأردوغان والذي سن قانونا خاصا به لحمايته من المساءلة في العام 2013 موضوع الآن قيد الشبهة. إعمال المبضع في الاستخبارات لتكون جهازين واحد للتجسس الخارجي وواحد للتجسس الداخلي هو من آخر نتائج فشل المحاولة الانقلابية. وليس مستبعدا ان يكون حاقان فيدان الضحية الأكبر لهذا التغيير بعدما قطع أردوغان الطريق عليه للدخول في المعترك السياسي ومنع ترشحه للنيابة في العام الماضي معتبرا ذلك ضمن مؤامرة عليه من قبل رئيس الوزراء السابق احمد داود اوغلو. والآن بعد عزل داود اوغلو لن يتأخر أردوغان في عزل فيدان.
شملت التصفيات عشرات الآلاف من المشتبه فيهم. وفي معلومات أوردتها صحيفة «جمهورييت» ان هناك حوالي مئة وخمسين ألف موظف قد يطردون من وظائفهم بعدما تم إبطال نتائج مباريات الدخول في العام 2010 بعد اتهام جماعة غولن بتسريب الأسئلة إلى جماعتها. طبعا هذا الرقم لا علاقة له بالأرقام التي تكاد تبلغ المئة ألف والذين تم طردهم او اعتقالهم منذ المحاولة الانقلابية في كل القطاعات بما فيها اتحاد كرة القدم.
لا تحجب كل إجراءات التطهير كما المواقف الخارجية شعور أردوغان بالقلق والخوف الذي يتمظهر في نبرة صوته وهو يخطب في المهرجانات والاجتماعات اليومية مع المخاتير في القصر الجمهوري. نبرة الإحساس بالخطر تغطي على نبرة الصوت. ونبرة الإحساس بالضعف والانكسار بعد المحاولة الانقلابية البادية على ملامح وجهه لا يحجبها كل هذا التحشيد المفتعل في الساحات. فمن دون جيش قوي ومخلص لا يمكن صناعة بلد قوي ولا حاكم قوي. اليوم حتى أقرب المقربين إليه، حاقان فيدان، تخلى عنه. والانقلاب الذي كان إشارة إلى فشل سياسات أردوغان السابقة، سيبقى علامة فارقة في جبين السلطان الذي أراد هدم الدرع العسكرية للعلمانية من اجل دولة دينية وفردية، فإذا به في مصيدة الفوضى والاضطراب والمزيد من المخاطر التي جاءت بها سياساته منذ اكثر من ست سنوات وحتى اليوم.

محمد نور الدين

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...