غسان الرفاعي: الملكيات المحروسة!

27-09-2010

غسان الرفاعي: الملكيات المحروسة!

-1-

لا يسجل المؤرخون إلا الحياة العامة لصانعي التاريخ، وقلما يتحدثون عن حياتهم الخاصة، فهذه –كما يزعم- (ملكية محروسة) ليس من الأخلاق الكشف عن أسرارها وخفاياها. ولا يركز المؤرخون إلا على (الحدث) الذي يرتبط باسم (صانعي التاريخ), وقلما يأتون على ذكر الناس الغفل الذين شاركوا في صنع الحدث، فهؤلاء –كما يزعم- (كومبارس، كومة من الأصفار، سماد) تظهر على المسرح وسرعان ما تموت ويطويها النسيان، وحتى حين يكثر الحديث عن (عصر الجماهير) فإن الأضواء كانت تسلط دوماً على (الزعيم الجماهيري) لا على الجماهير ذاتها، بل لعل عبادة الفرد لم تصل إلى التالية إلا في عصر سيادة الجماهير، فكان من إفرازاتها (ستالين وماتسوي تونغ وكيم ايل سونغ). ‏

لا أدري من الذي قال إن (الأديب أكثر صدقاً من المؤرخ) ولكنني مازلت أحتفظ في دفتر مذكراتي بهذا المقطع المثير: (يسهب المؤرخ في الحديث عن القائد الذي قاد المعركة وأصدر الأوامر: خطته، استراتيجيته، في حين يسهب الروائي في الحديث عن الجنود الذين خاضوا المعارك ونفذوا الأوامر: مشاعرهم، همومهم، هواجسهم. ومن هذا المنطلق يبقى الروائي ألصق بنبض الحياة، وأقدر على فهم الحدث التاريخي من الداخل لا من الخارج.). ‏

وقد تولد عندي تهميش للمؤرخين وإعجاب مفرط بالأدباء والشعراء. كنت أهتم بالحياة الخاصة لصانعي التاريخ أكثر من اهتمامي بحياتهم العامة، وكنت معجباً بالأصفار الذين يخوضون المعارك، وينفذون الأوامر، أكثر من إعجابي بالقادة الذين يحركون هؤلاء الأصفار. كنت منحازاً للرواية ضد التاريخ، متعصباً لدستوفيسكي وشكسبير ضد ميشلان وتوينبي، متحمساً للمتنبي ضد الطبري، ومازلت مقتنعاً بأن شكسبير كان أقدر على فهم (يوليوس قيصر وبروتوس) من كل مؤرخي العصر الروماني، وأن المتنبي كان أقدر وأبرع وأصدق على فهم حقيقة شخصيتي (سيف الدولة وكافور الاخشيدي) من كل كتب التاريخ العربي، القديم والحديث. ‏

-2- ‏

قضيت عطلة الأسبوع في قراءة كتابين (خطيرين) أنزلتهما إلى الأسواق العامة المطابع الفرنسية: أولهما عن الحياة الخاصة للزعيم الخالد (ماوتسي تونغ) من تأليف طبيبه الخاص الذي رافقه عشرين عاماً، وثانيهما عن الحياة السرية للرئيس الفرنسي التاريخي (فرانسوا ميتران) من تأليف صحفي أتيح له أن يطلع على بعض خفايا الرئيس. ‏

وعلى الرغم من التباين في الكتابين –أسلوباً ومعلومات ومضموناً- فإنهما يشتركان في التغلغل إلى صميم الحياة الداخلية للزعيمين اللذين تركا بصماتهما الثقيلة على التاريخ المعاصر، و(هتك) بعض الأسرار التي كان يحرص الزعيمان على إخفائها عن الجماهير (الغفل). ‏

لا أريد أن أحرم مجتمع الكومبارس أو الأصفار من قراءة الكتابين ولكنني سأستشهد بمقطعين منهما، لما يثيران من دهشة واستغرب: ‏

يقول طبيب ماوتسي تونغ الخاص: (كان السيد ماوتسي تونغ يكره استخدام الفرشاة في تنظيف أسنانه، وكان يتخوف من الحمام أو الصابون، وكان فراشه عريضاً يتسع لستة أشخاص، وكان يرفض تبديل الشراشف ولو فاحت رائحتها، وكان يستقدم الفتيات المبتذلات الصغيرات ويرصهن في فراشه، ولا ينام بهدوء إلا بعد أن يمر عليهن، وأذكر أنه قال لي ذات مرة: ليس أبغض إلى نفسي أكثر من المرأة المتحررة التي تتحدث عن الثورة الثقافية بترفع وعصبية..). ‏

ويقول الصحفي الفرنسي: (هل يعرف الفرنسيون الذين كانوا يستمعون إلى رئيسهم على شاشة التلفزيون وهو يتحدث عن الأمانة والاستقامة والوفاء والحياة العائلية المستقرة أنه يعيش حياة ثانية مع امرأة أخرى، وأنه قد أنجب منها ابنة أصبحت شابة ناضجة اليوم، هل كان يخطر لهم على بال أن هذه العائلة غير الشرعية كانت تعيش في مكان ما بالقرب من قصر الاليزيه وأن السيد (غروسفر) الذي انتحر في القصر في ظروف غامضة كان مسؤولاً عن هذه العائلة مالياً وإدارياً). ‏

-3- ‏

أعلن صحفي مهني أن سيرة حياة الرئيس (ساركوزي) يمكن أن تلخصها ثلاث صور التهمت أغلفة الصحيفة البريطانية (الايكومونست) في ثلاثة تواريخ متباعدة، منذ توليه سدة الحكم حتى وضعه المحرج التالي: تزامنت الصورة الأولى مع الإعلان عن فوزه في الانتخابات الرئاسية 2007 وتظهره وهو يمتطي حصاناً غاضباً ويعتمر قلنسوة بونابرتيه، ويشهر سيفاً وهو يهتف (إلى الأمام) متوجهاً إلى القارة الأوروبية، وتزامنت الصورة الثانية مع ترؤس فرنسا للاتحاد الأوروبي وتظهر ساركوزي عملاقاً طويل القامة والى جانبه القزمان (غوردن براون البريطاني والمستشارة ميركل الألمانية)، أما الصورة الثالثة التي نشرت على غلاف (الايكومونست) في أيلول 2010 فتظهر ساركوزي قزماً لا يكاد طوله يتجاوز عدة سنتيمترات، وهو يعتمر بالقلنسوة البونابرتيه التي تكاد أن تأكل كل وجهه، في حين تنتصب السيدة الأولى كارلا بروني بقامتها الشاهقة وتنورتها الصغيرة، وكتب تحت الصورة: (الرجل الذي يتقلص والمرأة التي تتعملق..). ‏

-4- ‏

وكانت المفاجأة الكبيرة التي (أرعبت قصر الإليزيه) في مطلع هذا الأسبوع –كما أجمعت وسائل الإعلام- هي الإعلان عن كتاب (السيرة الذاتية لـ كارلا بروني) من إعداد الصحفية (بسما لاهوري). يتحدث بصراحة واخزة عن حياة عارضة الأزياء التي تحولت إلى مغنية ثم إلى (السيدة الأولى في فرنسا): عن غرامياتها ومغامراتها وترفها ومنافستها لـ سيسيليا زوجة ساركوزي الثانية وعن علاقاتها بالإعلاميين، وعن زوجها السابق الذي أعطاها ابنها الصغير الذي يسكن القصر الجمهوري الفرنسي الآن، وعن دورها السياسي والاجتماعي. ‏

قد يتطلب الحديث عن هذه السيرة السرية لـ (كارلا بروني) أكثر من مقال بسبب غزارة الأسرار والفضائح والقصص التي يتضمنها وقد يكفي في هذه العجالة الاستشهاد بما قالته كارلا في مقدمة الكتاب للصحفية لاهوري: (ينبغي أن يعتز الفرنسيون بما وهبته لهم من تضحية: كنت أنتعل الأحذية ذات الكعب الطويل وأنا في العاشرة، وكانت تتنافس دور الأزياء على عرض هذه الأحذية، وأنا اليوم بعد سيرة حافلة من عرض الأزياء والغناء وبعد أن أصبحت السيدة الأولى في فرنسا، مرغمة على أن أنتعل أحذية ممسوحة لا تليق إلا بطالبات المدارس الابتدائية، بسبب قصر قامة ساركوزي زوجي. هل من المعقول أن أقف إلى جانبه في المناسبات الرسمية ورأسه لا يكاد يصل إلى كتفي!) ينبغي على الشعب الفرنسي أن يقدر هذه التضحية! كما يكفي اعترافها بأنها أقنعت الرئيس ساركوزي بالسماح لزوجها السابق –أب ابنها اورليان- أن يزور القصر الجمهوري يوم الأحد محاطاً بالتكريم اللازم والحفاوة اللائقة لرؤية ابنه. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...