يوم كانت «حمص» عاصمة ثقافية!

22-09-2015

يوم كانت «حمص» عاصمة ثقافية!

إن مررنا من أمام مسرح «دار الثقافة»، لا بد أن نتذكر تلك الجمهرات من الناس بانتظار أن يفتح المسرح بابه، شوقاً لحوارات وشخصيات وعروض فرق، تجري على خشبته، نجهل الآن أين أصبح معظم أعضاء تلك الفرق. ونتذكر الشمعة الأولى للمهرجان المسرحي العام 1987 الذي لحقت به مهرجانات مسرحية في مدن سورية أخرى.
في حمص كانت تعقد دائماً الأنشطة أولاً، وتلحق بها بقية المدن. كما انفردت حمص بإقامة مهرجان الثقافة الموسيقية، وهما من تنظيم المكتب الفرعي لنقابة الفنانين، وفي شريط الاستعادة لا بد لك أن تشاهد وجوه عمالقة كبار شاركوا فيه، أصبحوا مقامات الذاكرة وتقاسيمها، فيطلّ وجه الراحل منير بشير، الذي طالما تشاجرنا نحن عشاق الاستماع لآلة العود، عندما يصرّ أحدنا على صيغ التفضيل بينه وبين الفنان نصير شما الذي حلّ على فعاليات المدينة أكثر من مرة. كما نشاهد وجوها رتيبة: الحفني، محمود عجان، جبرائيل سعادة وسعد الله آغا القلعة، قبل أن يهجر بحثه في الموسيقى ويصبح وزيراً للسياحة، دون أن ننسى محمد قدري دلال، نوري اسكندر، ميادة بسيليس وأسماء إبداعية عدة في العزف والتلحين، والغناء غير السائد.
لكن في مقدمة تلك الوجوه يحضر وجه الراحل منصور الرحباني، فهل تذكر يا سيدي يوم جئت لهذا المهرجان العام 1996 تحمل شمعة تواضعك، تواضعك عنوانك الدائم وهو الدرس الأخلاقي الذي تعلمناه منك في هذا اللقاء الوحيد الذي سمحت لنا الأيام به، وكنت إذ وصلت متأخراً، جلست في آخر المسرح، لولا أن انتبه الناس لحضورك الكوكبي.. صفقوا لك، فانتبهت إدارة المهرجان التي أوقفت النشاط على الخشبة، لتعبر إلى أول الصالة على وقع هتاف قلوب الحاضرين المحبين لك ولإبداعك.
برلمان ثقافي
 لم نعد نحن الحمامصة ننشغل سوى بمهرجان استعادة الذكريات؛ لقد توقفت مع مطلع نيسان 2011 في المدينة، الفاعليات الثقافية دفعة واحدة لتغدو المدينة بيداء! وهي التي كانت توسم بـ «عاصمة ثقافية» من قبل الذين يشاركون في فاعلياتها الثقافية، من خارجها، أو من خارج القطر، قبل أن توسم من قبل القائمين فيها على الهيئات الثقافية المتعددة، أو من قبل الشرائح المنتجة لتلك الفاعليات، وذلك لكثرة فاعلياتها الثقافية على مدار العام، إذ كان تنوع مهرجاناتها بين المسرح والموسيقى والشعر والقصة والسينما، فضلاً عن الندوات الأدبية والفكرية، والمؤتمرات الخاصة بالترجمة والآثار، والأماسي الأدبية لفنون الشعر والقصة والرواية والمسرح، وعروض الفرق الراقصة، يجعلها تستحق بنظر من يأتي للمشاركة بفاعلياتها ذلك اللقب.
ومع بدء استعادة المدينة منذ أكثر من سنة ونصف السنة، شيئاً من أنشطتها إلاّ أنها لم تستعد ولا واحدا بالمئة مما كان يعقد فيها، فبعض الأماسي والمحاضرات والعروض السينمائية المتفرقة التي تقوم بها أكثر من هيئة ثقافية، على مدار أشهر، كانت تعقدها هيئة ثقافية واحدة في أسبوع واحد! ناهيك عن تدني مستوى تلك الأنشطة أو تناول بعضها لمواضيع لا تحرك سؤالاً في أذهان المتلقين، وبعضها لا يصلح علفاً للبهائم! ويحيي تلك الأنشطة الذين يقطنون في المدينة، إذ بات متعذراً المشاركة فيها من خارج المدينة، فكيف من خارج القطر، نظراً لواقع الحرب في البلد بشكل عام. وحمص ما كان لها أن تكسب تلك السمعة الطيبة لولا انفتاحها على بقية المحافظات أولاً من خلال مهرجان الشعر العربي العريق الذي كانت تقيمه رابطة المتخرجين الجامعيين والذي توقفت فاعلياته عن عمر تجاوز الثلاثين سنة، ولانفتاحها ثانياً على أشقاء من أقطار عربية، في مقدمتهم لبنان، بحكم قربه من حمص. فبالمبدعين الذين حلّوا فيها ضيوفاً، كبرت حمص بهم، ونزعم أن بعضهم كبر بمشاركته في أنشطتها، إلى درجة أنه إن غاب بعضهم سنة عن الفعالية التي كان يشارك فيها يعتب علينا، لشدة تعلقه بالمدينة وإعجابه بحسن التنظيم وفاعليته وبجمهورها المتابع بإصغاء إلى درجة كان يدفع ببعض المبدعين إلى مديحه والحذر منه في آن واحد.
لكن كل ما كانت تقيمه الهيئات الثقافية (الحكومية، والأندية والجمعيات الأهلية) التي يعود أقدمها لعام 1933 كنادي دوحة الميّماس للتمثيل والموسيقى الذي تأسس لمحاربة الاستعمار الفرنسي لسوريا بالفن، ما كانت لتقدّم برامجها الثقافية، لولا قيادة هذه الهيئات من قبل برلمان ثقافي كان يسمى «مجلس الفعاليات الثقافية» وكان يشرف عليه خضر الناعم الذي كان يتابع معظم الفاعليات ذات الطابع المهرجاني، ولم تعرف مدينة أخرى تجربة مثل هذا المجلس الذي كان تجربة فريدة ورائدة في سوريا بدأت العام 1987، يضم الهيئات الثقافية والإعلامية في المحافظة وعضوية مجلس المدينة كممول وفاعل ثقافي. وهدف المجلس الذي كان ينعقد شهرياً كان تقويم ما تمّ إنجازه من فاعليات ثقافية ومناقشة التحضيرات التي تمت للفاعليات القادمة، في سبيل تطويرها، وتداول المقترحات والمتطلبات التي تفعّل وتيسّر عمل الهيئات الثقافية. وكان يطبع مواعيد الأنشطة البارزة مثل المهرجانات والندوات السنوية في دليل منذ بداية العام، بهدف عدم تضارب مواعيد الأنشطة، وبالتالي لا يحرم أهل المدينة من متابعة أي نشاط، والذي للأسف كانت آخر جلسة له في نيسان العام 2002، وبدأنا منذ ذلك العام نشهد تراجعاً في الدعم المالي للهيئات الثقافية غير الحكومية، وتدني مستوى الفاعليات الثقافية وتوقف بعض المهرجانات أو عدم انعقادها بشكل دوري.
على قيد ألوانهم
 فهل إن مررنا اليوم من أمام صالة سينما «الكندي» المتوقفة عن العمل كما سائر ما تبقى من دور العرض في حمص، بوسعنا غير تذكر مهرجان «رفيق أتاسي» للأفلام الروائية، ومهرجان أيام سينما الواقع «دوكس بوكس» للأفلام التسجيلية، والنقاشات التي كانت تجري حولها، بخاصة فيلم «في منزل والدي» للمخرجة المغربية «فاطمة جبلي وزاني» الذي تناولت فيه أهم قضية تعاني منها المرأة العربية وهي تقييمها من خلال حفاظها على البكارة، وما حجزه من مساحة في الذاكرة قول جدّة (في الفيلم) أنهت العقد الثامن من عمرها «ماذا تعنين بغشاء البكارة»؟!
وإن حاولنا تلوّين بعض الاسترجاعات لا نستطيع إلا أن نمسك بطيف جلسات عدة قضيناها في حديقة صالة الفنون الجميلة، المكان الآسر معمارياً وبخضرته ومياهه وروّاده، وستحضر في البال طبعاً أسماء فنانين تشكيليين، رحل بعضهم، ولا ندري من الذي لا يزال حياً منهم، لكن يجمعهم أنهم على قيد الحياة بألوانهم ومنحوتاتهم: مصطفى بستنجي، عبد الله مراد، الراحل وائل قسطون، صادق الحسن، بسام جبيلي، هالة الفيصل، غسان النعنع، جورج ماهر، عدنان الشيخ عثمان، سهف عبد الرحمن، محمود ضاهر، عون الدروبي، إياد بلال، مها طويل، عبد الله عبيد، عبد القادر عزوز ومحمد طليمات. ونستعيد حوارات حول بعض معارضهم وجدواها في ظل غياب ثقافة بصرية وجمالية، تربوية ومجتمعية، وانعدام الإمكانات المادية للشريحة التي تتابع تلك المعارض.
أيام زمان
 أمّا وإن شعرنا بالحنين إلى أيام مهرجان الشعر العربي (تقيمه رابطة المتخرجين الجامعيين)، وإلى المهرجان الثقافي الفني لمجلس المدينة، وأيام كنيسة مار إليان الثقافية، الملتقى الفكري ومن كان فيه من ضيوف، لا بدّ وأن تشتعل قوافي شوق وبحور مودة وتفعيلات ندى لمفكرين وأدباء أغلبهم شعراء كبرت المهرجانات بهم: مظفر النواب، أحمد دحبور، إبراهيم نصرالله، شوقي بزيع، طاهر رياض، إلياس لحود، محمد علي شمس الدين، علي الجلاّوي، حسين السماهيجي، باسمة بطولي، زليخة أبو ريشة، غسان مطر، زاهي وهبي، جودت فخر الدين، يوسف عبد العزيز، عبد الوهاب أبو زيد، جاسم الصحيّح، محمد العبد الله، المتوكل طه ومحمد مظلوم. دون أن ننسى الراحلين محمود درويش وجوزف حرب. إبراهيم بيضون، منى فياض، نقولا زيادة، سهيل مطر، جمال مقابلة، ربيعة ريحان، محمد المخزنجي، وحيد الطويلة، وأدباء ونقاد وباحثون من حمص ليس أولهم حنا عبود وفرحان بلبل وفراس السواح وطيب تيزيني وبرّي العواني، وليس آخرهم عبد القادر الحصني، شاكر مطلق، هيثم الخواجة، محمد محيي الدين مينو، سمر الفيصل، نور الدين الهاشمي، مصطفى خضر، ممدوح السكاف،حسان الجودي، دعد طويل قنواتي. وفي ختام شريط الاستعادة ينهض وجه مرسيل خليفة ووفاؤه ذو العلامة الإنسانية المسجلة، العصية على التقليد، بعنوان (ونحن نحبّ الحياة: تحية إلى محمود درويش) إذ قدّم حفلته الأولى (21/12/ 2008) ضمن فاعليات دمشق عاصمة ثقافية، في حمص بصالتها الرياضية التي شهدت آخر آمسية (12/3/2007) أقامها الراحل درويش في سوريا. وسنظل نستظل بلقاءات، وجلسات عائلية، وسهرات ودعوات، كلها أصبحت في مدوّنة كان يا ما كان!!


نضال بشارة

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...