(وعكة عابرة).. الممثل ضحيّة الأدرينالين..!

28-10-2007

(وعكة عابرة).. الممثل ضحيّة الأدرينالين..!

«لأني لا أؤمن بالإياب، ولأن ما يصدق، لا يصدق الا لمرة واحدة» ربما كان هذا المقطع الشعري لـ ت.س إليوت يكشف عن حساسية الزمن المسرحي المجتزأ من المشهد الأكثر فجاجة للحياة.

وهذا بالتالي يضعنا مرة أخرى وجهاً لوجه أمام فارق التوقيت الذي يعاني منه المسرح السوري، فالعرض الذي قدمه طلاب المعهد العالي للفنون المسرحيةكمشروع تخرج منذ أكثر من ثلاث سنوات، يعاد اليوم كمشروع للفنان فايز قزق، ورغبة منه بتقديم ما يسمى مسرح الحياة.. فالمسرح الذي أصبح الآن محيطاً بنا في كل تفصيل من حياتنا اليومية يذهب الى تقديم الفرجة، وما تبقى هو تحديد أزمنة بعينها، وعرضها على أنها تمثيليات متواترة الشدة، مع اللعب مجدداً على المفارقات المؤلمة لوعي الجمهور.. إنها محاولة للاقتصاص من الجمهور بتصنيفه وإقصائه.. انه فن سرقة الحياة من أماكنها الحقيقية، لتبدو هذه المرة وعلى الخشبة معافاة من المصائر المزمعة، والضروريات المادية الصرف، لاشك أن جهد الممثل في هذه النوعية من العروض جهد مضاعف وأخاذ.. لكن هذا الجهد مبحوح ومستميت لاصطياد الانتباهات المواظبة على انتباهاتنا، والإصرار على أن يستشيط هذا الممثل وقته متباكياً متشاكياًَ، وممسكاًَ بكل هفوات من يراقبه، إنه ممثل مدان على أنه يشبهنا، لذلك لا مغفرة ترجى لذلك الشخص الذي تخلى عن دوره العالي، ولهذا هو مطالب بتزكيات مستمرة ممن يرقدون هناك في العتمة لمتابعة أفعاله وشجونه، فالشخصية المكتوبة لا تؤمّن مساحة صمت كافية لإقناعنا بالاهتمام حقيقة بما يحدث، إلا بالمناوبات المتكررة للممثلين، ومع تنويع مفرط في أزماته ونوباته العصبيّة. 
 إن رؤية الممثل على هذا النحو يجعله في خطر دائم، ويكشف عنه كل الأقنعة الافتراضية، إنه لا يصدق مع كل هذه الرغبة لديه بأن نصدقه أو نثق به.. إن ما نتابعه فقط هو حججه المستمرة، مرافعاته وخطاباته وطرائفه المكرورة، إذاً لماذا نشاهد وعكة عابرة مرة أخرى؟ يبدو أننا ننتظر حدوث شيء، أي شيء أو على الأقل هو التعاطف مع الشخص الذي يروي لنا قصة للمرة العاشرة، دون أن نشعره أننا سمعنا أو رأينا ذلك مراراً دون طائل، وربما سيكون الحل الأمثل لهذه المشكلة هو في إضاءة كشافات الصالة، عندها فقط سيرى الممثل تلك الامتقاعات الفظّة للجمهور، وسيكون من الصعوبة بمكان التنبؤ له بالمضيّ في غيِّه أكثر من ذلك، على أننا نعرف تمام المعرفة أن تأمين الحماية العاطفية للممثل بإطفاء الأضواء على الجمهور، وتوجيه كل الضوء نحو وجهه سيكثّف من هول الحكاية، وأننا في النهاية أمام عرض مسرحي، وقبلنا بإرادتنا كل الشروط التي أرادها المخرج لتوريمنا واستفزاز حواسنا الخائرة، لكن بالمقابل لا يمكن أن يكون عرض «وعكة عابرة» منذوراً لإمتاعنا أو حتى أن يكون خلاصة إبداعية وقّادة لما توصل اليه فن المسرح في سورية، صحيح ان فايز قزق لعب على منتجة هائلة للحياة بالذهاب بنا نحو المشفى ـ المسرح، لكنه وبطريقة أخرى يقدم لنا نكوصاً هائلاً للوعي، فالأب المريض غائب تماماً في عنايته المشددة إنه مقتول على كل حال، هو شرط نهائي لإتمام اللعبة وتمريرها، وهذا لا يندرج بالضرورة تحت عنوان قتل الأب ـ الطوطم بل تركه في مقام المحكي عنه، «والمأسوف على شبابه»، وعلى التوالي لن يكون هناك أمٌّ، الا كمعادل ذكريات وهواجس يعلنها الأبناء تألماً للفقد والحرمان العاطفي، اذاً ما الذي تبقى؟ 
 إنهم الأبناء والأصهار والكنتان، ولن يظهر الأب إلا كمرثيّة مسخيّة، إذ لا موت واضح أو نهائي، بل الاحتفاظ بالهيبة والرصانة حتى على فراش النهاية، ليبقى الإرث والورثة المرتقبين حكايا أخذت طابع الثنائيات الزوجية المتناقضة كلاً على حدة، وفي أثناء ذلك تبدأ المكاشفات المطولة عن ماضي الشخصيات.. فالأبناء آباء وأمهات أيضاً، أو يطمحون لهذه الأبوة أو الأمومة، بالتالي ليس هناك من أبناء، إنه تجييل مؤلم لآباء وأمهات، والعقم الحقيقي ليس في عدم إمكانية الإنجاب بل في الشعور المزمن بعدم الاحترام والتقدير، لأنهم آباء جدد، ولايسمحون في أية لحظة أن ينتزع منهم هذا الدور الاجتماعي، وهذا ما لا تريد الشخصيات الإفصاح عنه أو توضيحه، فالرغبة في السطوة والاحتفال بالإنجاز كلها تتزاحم على المحاصصة الدؤوب لتركة الأب المتوعك. لقد تناثرت مساحة الأب الأصل إلى مساحات صغيرة تسمح لأبنائه توزيع الأدوار من جديد، على أنهم ضحايا مشرقة الوجوه وباسمو الطلعة. على مستوى آخر لم تحلنا الأكروبات البسيطة التي كانت فاصلاً بين لوحة وأخرى الى جماليات جديدة، فوطأة الكلام المشتعل، وعدم السماح لمساحات من الصمت أن تأخذ شكلها على الخشبة، أو تترك انطباعاتها على وجه الممثل وجسده، يمكن أن يعود ذلك الى رغبة واضحة لدى المخرج لتسريع وشحن كل شيء.. فالشخصيات تبدأ من الذروة وتنتهي في الذروة غالباً، والصراعات غير قابلة للتمديد، فقط ارض حكايتك المبرجزة بالمفردات المتفق عليها، ثم اذهب الى الكواليس وانتظر خروجك الثاني، إننا نتناوب على الجمهور، ولن نسمح له بالملل أو الشرود، ومقابل ذلك يجب على الممثل ان ينهي كل المشاهد دفعة واحدة، أو بطريقة الصدمة، لأن الأزمات متوفرة ومتاحة ومشروعة، دون السماح له بالسكون أو النظر لمرة واحدة في عتمة الصالة.. فالتكثيف مطلوب، لذلك لم يصل العرض الى ذروة حقيقية، فالتصعيد مستمر على مدار الوقت، والمحاكمة القاسية للشخصيات أيضاً مستمرة، ولذلك لجأ فايز قزق الى تلك الخاتمة الشعرية، بعد استنفاد هائل لطاقة الأداء، وتمريغه بشتى أنواع «الحواس الإضافية». ‏

وما نخلص اليه ان قزق لم يستعمل سلماً للصعود بالحالات المتدهورة، لذلك سيبدو العرض مشاهدَ معزولة ولا تحتاج بالضرورة الى بداية ونهاية، فالعرض الذي افتتح مع عاملة النظافة في المشفى ليس بالضرورة بـ «نيال الشاعر» إن ما يحدث حدث تماماً في مشفى حكومي ليلاً، ولتبقى التنويعات الحركية والكلامية للممثل محض مصادفة على خشبة مسرح الحمراء، لذلك لم يفارقنا ذلك الإحساس الذي يعتري الأشخاص في الحفلات التنكرية، ولكن مع إضافة الفصل الحاسم بين الخشبة والجمهور، مع أن النية كما يبدو كانت غير ذلك، فكانت الوعكة العابرة هذه المرة للممثل أشد وطأةً، بعد تعرضه لجرعات كبيرة من الأدرينالين، فكان التأثير هذه المرة معكوساً بنقل الرعب والتلذذ بتوصيفه على المسرح فإذا ما استثنينا الحوارات والأصوات والإجهاشات والصرخات والنشيج لحناجر الممثلين، سنجد أنفسنا أمام أسراب صامتة من أسماك الزينة التي تريد أن تقول لنا شيئاً وهي في أحواضها المائية الصامتة...!

سامر محمد اسماعيل

المصدر: تشرين
 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...