وداع آخر لجوبز: الساحر وضع مصير الكومبيوتر بأيدي مجهولين

05-11-2011

وداع آخر لجوبز: الساحر وضع مصير الكومبيوتر بأيدي مجهولين

مع تعدّد الأجهزة الذكية وتنوّعها أخيراً، تولّد انطباع قوي عند كثيرين من متابعي الشأن المعلوماتي بأن النقطة الأكثر سخونة في المنافسة بين شركات المعلوماتية والاتصالات، انتقلت إلى ميدان لم يكن متوقعاً. فمنذ انطلاقة العصر المعلوماتي، تغيّرت ساحات المنافسة في شكل حربائي. ومع ظهور الكومبيوتر الشخصي Personal Computer، تمحور الصراع في عالم المعلوماتية والتقنية الرقمية على الحاسوب نفسه. واتّخذ الصراع هيئة القدرة على صنع كومبيوتر رقمي شامل يستطيع الجمهور الواسع أن يستخدمه في الحياة اليومية. وللتذكير، عمل ستيف جوبز مع بيل غيتس في شركة «آي بي إم» IBM، بل أنه كان صديقه الأقرب في العمل. ثم تنبّه غيتس إلى أن النقطة المقبلة في الصراع تتعلق بنُظُم التشغيل، وليس بالكومبيوتر نفسه، خصوصاً قدرة الجمهور على كتابة أوامر كي يُشغل الكومبيوتر الشخصي بمقتضاها. بسّط نظام «دوس» وطوّره. وبفضل ذلك أخذ يكتسح شركة «آي بي إم»، التي لم تكن متنبّهة بصورة كافية لأهمية نُظُم التشغيل. ثم تنبّه غيتس إلى أهمية أن يكون نظام التشغيل مستجيباً لأوامر تكتب بلغة قريبة من اللغة اليومية للناس. وهكذا طوّر «دوس» Dos كي يخرجه من أسر اللغة التقنية. ثم صنع «دوس شيل» Dos Shell، وهو نظام لكتابة الأوامر بطريقة قريبة من لغة الحياة اليومية. ثم صنع «ويندوز» Windows، الذي لا يطلب من الجمهور كتابة أوامر، بل يكتفي بأن يقدم له «قوائم» تقنية مكتوبة بلسان اللغة العادية. واكتسح غيتس عالم المعلوماتية. صار أسطورة مع تأسيسه شركة «مايكروسوفت» Microsoft التي أضحت عملاقاً لا يضارع. لم يشارك جوبز زميله في هذه الحرب، التي اعتبرها نوعاً من «الخيانة» لشركة «آي بي إم». وانتقل إلى شركة أخرى، بالأحرى أسسها، وسمّاها «آبل» Apple تيّمناً باللقب الشائع لمدينة نيويورك: التفاحة الكبيرة. سمى جوبز نظام التشغيل الذي صنعه «ماك» Mc. جعل جوبز تفاحة «آبل» مقضومة، بمعنى أنها أقل من المدينة الكبيرة. لنتذكر أن شركة «آي بي إم» تعمل في أحد ضواحي نيويورك.

صراع جبّارين ثم جاء آخرون
اندلع صراع هائل بين نظامين جبارين لتشغيل الكومبيوتر: «ماك» الذي صنعته شركة «آبل» و «ويندوز» الذي اجتاح به بيل غيتس حواسيب شركة «آي بي إم» قبل أن يصبح رحماً لولادة «مايكروسوفت». بعدها، دخلت شركات صناعة الرقاقات الإلكترونية في هذه المعركة الضروس، التي ازدادت نيرانها اشتعالاً بدخول نُظُم التشغيل المفتوحة المصدر إليها، خصوصاً «لينوكس» Linux. وبصورة عملية، صارت شركات مثل «إنتل» Intel و «نفيدا» Nivedia و «أي إم إس» AMS هي العنصر المحدد لنتيجة الصراع بين شركات المعلوماتية ونُظُم الكومبيوتر. ثم دخل الخليوي على الخط، بصورة لم تكن متوقعة تماماً. ودأب هذه الجهاز على اقتباس تقنيات الكومبيوتر وإدخالها في نسيج صناعته. وسرعان ما صار الخليوي جسراً بين عالمي الكومبيوتر والاتصالات المتطوّرة. تنبّهت «مايكروسوفت» لهذا الأمر. وصنعت نظاماً لتشغيل الخليوي. لكنها لم تستطع أن تكرر النجاح الذي أحرزته في الحواسيب. فبينما استطاع «ويندوز» السيطرة على أكثر من 90 في المئة من أجهزة الكومبيوتر عالمياً، بقيت نُظُم مايكروسوفت للكومبيوتر مجرد لاعب آخر في السوق. نافسها نظام «سامبيان» Sympian بضراوة، إضافة إلى النُظُم المعتمدة على لغة «جافا» Java. وقبل أن يتبدد دخان هذه المعركة، ظهر عملاق هائل على حين غرّة. اندفع الراحل ستيف جوبز إلى الساحة، ربما ليعوض خسارة «آبل» ونظام «ماك» في عالم الحواسيب. وتنبّه جوبز إلى ميل الشباب المعاصر إلى الموسيقى، فأطلق «آي بود» iPod بموصفات تربط بين عالم الموسيقى الرقمية والإنترنت، خصوصاً عبر مخزن «آي تيونز» iTunes للموسيقى. حقّق نجاحاً كاسحاً. وتجاوبت الإنترنت مع خياله. امتلأت الشبكة العنكبوتية بأشرطة صوت رقمية بتقنية «إم بي ثري» MP3. وحملت معها تقنية للبث عبر الإنترنت سُميت بـ «آي بودينغ» iPoding. وصار جهاز الموسيقى الذي صنعه جوبز، أداة لنقل الأخبار والمعلومات والرسائل الشخصية والتعليق على مباريات الرياضة وغيرها. صارت أيقونة «آي بود» جزءاً أساسياً من مواقع الإنترنت. ذاق جوبز نجاحاً هائلاً، ربما عوّضه مرارة الخسارة الطويلة أمام «ويندوز».

لم يتوقف الأمر عند تلك النقطة. التقط جوبز خيط النجاح. وطوّره بسرعة. أدهش العالم بأن صنع خليوياً سمّاه «آي فون» iPhone.

بدا هذا الخليوي وكأنه جسر مُضاد، بمعنى أنه عبور الكومبيوتر إلى عالم الاتصالات الخليوية المتطورة. ببساطة، أخذ جوبز جهاز «آي بود» للموسيقى، وأضاف إليه خصائص الاتصالات الخليوية، مع الاحتفاظ بكل ما اقتبسته صناعة الخليوي من الكومبيوتر. وجعل فوق هذا الخليط كله، شاشة تعمل باللمس مقتبسة من تداخل عالم التلفزة مع الكومبيوتر اللوح «تابلت». باختصار، جسّد «آي فون» خليطاً من جهاز موسيقى رقمية وخليوي متطوّر وكومبيوتر مُبسّط وشاشة تعمل باللمس.

لعبت أصابع الساحر جوبز بهذه الخلطة الساحرة، لتصنّع جهازاً سلب لبّ الجمهور من النظرة الأولى. راج «آي فون» بطريقة هائلة، ما جعل شركات الخليوي ترتجف فزعاً أمام هذا الساحر الذي خرج من قمقم كومبيوتر «آبل»، بعد أن حرّكته الأنامل الأنيقة لجهاز الموسيقى «آي بود». سارعت شركات الاتصالات كلها لتقلّد، بطريقة أو بأخرى، «آي فون». مع سعة قوية في الجهاز، استطاع الجمهور أن يمتلك قوة لم تعطها له الأجهزة الخليوية التقليدية. ثم انفجرت عوالم التكنولوجيا بأنواعها كافة، مع الضربة التالية (للأسف كانت الأخيرة)، للساحر جوبز. مرّة أخرى، عاد إلى مطبخه السحري. وضرب بعصاه القدر الكبير ومُكوّناته الهائلة. أخرج خليطاً لم تره الأعين من قبل، بل ربما لم تتوقعه المخيلات أيضاً. وبينما كان عالم الكومبيوتر غارقاً في منافسة راكدة، فجّر جوبز آفاق صناعة المعلوماتية والاتصالات. قبل تلك الضربة، كان عمالقة الكومبيوتر مستمرين في صراعاتهم، غافلين عن واقع أنها أصبحت تكرر نفسها بنفسها. كل جهاز يخرج، بات يكرّر الذي قبله، بمعنى أن مجال التغيير فيه صار متوقعاً. كانت الكليشيهات شبه محفوظة: كومبيوتر محمول بوزن أقل وشاشة تعمل باللمس ورقاقة أقوى. على الوتيرة نفسها: كومبيوتر مكتب برقاقة نانوية الأحجام (تعمل بقوة أضخم ولكنها أصغر، وفق ما تنبّأ خبير الرقاقات «مور» قبل سنوات طويلة)، وشاشة تستجيب لموصفات بصرية ثلاثية الأبعاد (ربما كانت تعمل باللمس أيضاً)، وقرص صلب له سعة خرافية (باتت تُقاس بالتيرابايت، وهو مقياس استُعمِل طويلاً في الـ «سوبر كومبيوتر» Super Computer، أو «الكومبيوتر الخارق»). ترك جوبز هذا التكرار الهائل الضجّة، ليصنع جهازاً مختلفاً. لا يملك هذا الجهاز ذاكرة خارقة، وليس فريداً بامتلاك شاشة تعمل باللمس. لكن، من رأى جهازاً يعطي الموصفات التي تُطلب منه؟ فكّر جوبز، وفق ما أوضح عند إطلاقه سحره الأخير، أن الجمهور لا يستعمل سوى جزء يسير من القرص الصلب للكومبيوتر، وجزء صغير من البرامج الموضوعة على الحاسوب، وشيء قليل من الإمكانات التي تتيحها الإنترنت. لماذا لا يصنع جهاز يُمكّن الجمهور من استعمال الأشياء الأساسية وحدها، مع ترك مساحة واسعة كي يضيف كل ما يريده على هذا الجهاز؟

ضربة سبقها... الموت
تمثّلت الضربة السحرية الأخيرة لجوبز بابتكار جهاز «آي باد» iPad. ذهل صُنّاع الكومبيوتر. لم يضمّ «آي باد» شيئاً لا يعرفونه أو لا يمتلكونه. ببساطة، لم يفكر أيٌّ منهم بأن يمزج التقنيات على هذا النحو تحديداً. ما جدوى تضخيم جهاز التشغيل في الكومبيوتر مثلاً، وتالياً ما جدوى الصراع بين نُظُم التشغيل، إذا استطاع نظام تشغيل مُبسّط (لا يحتاج رقاقات خارقة القوة ولا قرصاً رقمياً هائل الحجم)، أن يفي بالحاجات اليومية الأكثر انتشاراً لدى الجمهور الواسع للكومبيوتر؟ ما جدوى سعة القرص الصلب الهائلة، إن كانت سعة أقل تكفي جمهوراً أكثر، وإذا كان من يسعى للسعة الهائلة، مثل العلماء ومراكز البحوث، يستخدمون أنواعاً مختلفة من الحواسيب عما يستعمله الجمهور العام للكومبيوتر؟ عندما وقف جوبز ليقدّم «آي باد»، كانت يداه تطلقان سيولاً من هذه الأسئلة، فيما أصابعه تكرج على شاشة هذا الجهاز لتشرح مواصفاته. لاحقاً، قبل أن يغيب نهائياً، أضاف جوبز لمسة نهائية إلى «آي باد». وأفسح في المجال أمام وضع شريحة خليوي، ما يجعل «آي باد» جهازاً للاتصالات المتطوّرة أيضاً. لكن، للأسف جاءت ضربة جوبز، متأخرة. وتأخرت بأكثر من معنى. سبقها السرطان في النيل من حياة الساحر المُدهش ستيف جوبز. لكنها تأخرت تقنياً أيضاً. فمع إطلاق «آي باد 2»، وقبيل إطلاق «آي فون 5»، كانت المنافسة في عالم المعلوماتية والاتصالات قد انتقلت إلى مكان آخر. لقد صنع جوبز ذلك المكان بنفسه، لكنه لم يعِ تماماً أبعاد ما فعلت يداه. ربما أنه أدرك ذلك، لكن القدر لم يمهله. قبل أن يختفي جوبز عن الدنيا، كانت المنافسة قد انتقلت إلى عالم آخر: تطبيقات الأجهزة الذكية. لم يعد مهماً أن تُسمى هذه الأجهزة كومبيوتر أو حاسوباً محمولاً أو كومبيوتر لوح. لقد فات الزمن على هذا التنافس القديم. يكفي القول إنها أجهزة ذكية، بالمناسبة الذكاء هو ما سعى إليه عالم المعلوماتية منذ صنع الكومبيوتر الأول «إنياك» في خمسينات القرن العشرين. انتقل الصراع بين هذه الأجهزة، وبسرعة البرق تقريباً، إلى صُنّاع التطبيقات التي يمكن الفرد أن يضعها على تلك الأجهزة، كل فرد بحسب ما يريد. بعبارة تفتقد المبالغة، تعطي التطبيقات الفرد في مطلع القرن 21، كي يصنع حاسوبه، بيديه وبحسب أفكار تأتيه من وحي حياته اليومية.

سطوة الحياة اليومية وتطبيقاتها
في البداية، انطلق «آي باد» وحيداً في هذا المضمار، ولم يظهر منافسوه إلا ببطء. ولم يكن ظهور أجهزة منافسة جدياً لـ «آي باد»، إلا بصعوبة. واحتاجت شركة «موتورولا» مثلاً، إلى وقت كبير كي تدفع بلوحها الإلكتروني «زووم» Xoom، لينافس «آي باد». وعلى غرارها سارت شركة «سامسونغ»، فأنزلت إلى الساحة لوحها «غلاكسي تاب» Galaxy Tab، وطوّرت نُسَخَه بسرعة لتصل في اختتام الأسبوع المنصرم، إلى لوح «غلاكسي تاب 7.0 +» Galaxy Tab 7.0+، وصنعت «بلاك بيري» لوحها «بلاك بوك» Black Book. ثم تشجّعت شركة «أمازون.كوم» الشهيرة، فدخلت صراع الجبارة عبر جهاز «فاير» Fire (حرفياً «نار»)، بسعر مئتي دولار.

تركت «أمازون.كوم» مكانها الوثير عالم الكتاب ودهاليز أجهزة قراءة الكتب الإلكترونية (حقق جهازها «كيندل» انتصارات مؤثّرة). دخلت الصراع بجهاز بسيط، على غرار الطريقة التي افتتحها جوبز نفسه. إذ خلا «فاير» من أي كاميرا، وشاشته متوسطة (7 بوصة) وهي أصغر من حجمي 10.1 بوصة و9.7 بوصة، السائدين في أجهزة اللوح. ربما لهذا السبب تحديداً، تكتسب هذه «النار» أهميتها، بمعنى أنها جعلت الألواح الإلكترونية الأخرى (من «آي باد» إلى «بلاك بوك»)، تبدو وكأنها مجرد تنويعات على نغم بات معزوفاً بكثرة!

الأرجح أن  الخيط المشترك لهذه الأجهزة هي التطبيقات، التي أطلق جوبز ماردها من القمقم، مع «آي تيونز». لكنها ارتدت عليه. صنع جوبز مخزن «آبل أبس» لتطبيقات «آي باد». ثم صار لكل شركة مخزنها، مثل «أوفي» لـ «نوكيا». وصنع «غوغل» تطبيقات بتقنية سمّاها «أندرويد» Android. صار سهلاً صنع أجهزة ذكية، طالما أنها ستلاقي دعماً من تطبيقات «آندرويد» وسواها. ظهرت مخازن لتطبيقات «أندرويد»، فاعتمدتها شركات عدّة. مع ذيوع التطبيقات، انتقل الصراع إلى أيادي الشركات الصغيرة والمتعددة التي تصنعها. لقد سقط السحر. انكشف سرّ السحرة بانكشاف كلمة السر: التطبيقات. لكن الساحر، كان قد فارق الحياة. بمعانٍ كثيرة، تبدو ميتة جوبز وجودية. إنها مفصل بين صراع الجبارة في عالم المعلوماتية والاتصالات، وانفراط عقد السحرة إلى أيدٍ لا تكف حاضراً عن التكاثر، بل تغدو مجهولة أكثر فأكثر.

أحمد مغربي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...