غسان الرفاعي: المثقفون و«الكومبارس»

16-05-2011

غسان الرفاعي: المثقفون و«الكومبارس»

-1-
لا يسجل المؤرخون إلا «الحياة العامة» لصانعي التاريخ وقلما يتحدثون عن «حياتهم الخاصة» فهذه –كما يزعم- هي «ملكية محروسة» وليس من الأخلاق الكشف عن أسرارها وخباياها، ولا يركز المؤرخون إلا على «الحدث» الذي يرتبط باسم صانعي التاريخ، وقلما يأتون على ذكر «الناس الغفل» الذين شاركوا في صنع الحدث، فهؤلاء –كما يزعم- (كومبارس كومة من الأصفار، سماد، تظهر على المسرح لتختفي، ولتموت في النسيان)، وحتى حينما كثر الحديث عن «عصر الجماهير» فإن الأضواء تسلط دوماً على الزعيم لا على الجماهير ذاتها، بل لعل عبادة الفرد لم تصل إلى التأليه الأقصى إلا في عصر سيادة الجماهير، فكان من افرازاتها (ستالين)، و(ماوتسي تونغ) و(كيم ايل سونغ). ‏

لا أعرف من هو المفكر الذي قال بأن «الأديب الكبير أكثر صدقاً من المؤرخ ولكنني ما زلت أحتفظ في دفتر مذكراتي بهذا المقطع المثير: يسهب المؤرخ في الحديث عن القائد الذي قاد المعركة، وعن خطته الاستراتيجية، وعبقريته العسكرية، في حين يعيش الروائي مع الجنود الذين خاضوا المعركة ونفذوا الأوامر، ويحاول أن ينفذ إلى مشاعرهم، هواجسهم، ومن هذا المنطلق يبقى الروائي الصق بنبض الحياة، وأقدر على فهم الحدث التاريخي من الداخل لا من الخارج. ‏

وقد تولد عندي منذ الصغر عداء للمؤرخين، واعجاب مفرط بالأدباء والشعراء.. كنت أهتم بالحياة الخاصة لصانعي التاريخ أكثر من اهتمامي بحياتهم العامة كنت دوماً معجباً «بالأصفار» الذين يخوضون المعارك ويتلقون الأوامر أكثر من اعجابي بالقادة الذين يحركون هذه الأصفار، كنت منحازاً للرواية ضد التاريخ متعصباً لـ «دستويفسكي» و«شكسبير» ضد «ميشلان» و«توينبي»، ومتحمساً للـ «المتنبي» ضد «الطبري» وما زلت مقتنعاً بأن «شكسبير» كان الأقدر على فهم «يوليوس قيصر» و«بروتوس» من كل مؤرخي العهد الروماني، وأن «المتنبي» كان أبرع وأصدق في الكشف عن حقيقة شخصيتي «سيف الدولة» و«كافور الأخشيدي» من كل كتب التاريخ العربي. ‏

-2- ‏
قضيت عطلة الأسبوع في قراءة كتابين «خطرين» أولهما عن الحياة الخاصة بالزعيم الخالد «ماوتسي تونغ» من وضع طبيبه الخاص الذي لازمه على امتداد عشرين عاماً، وثانيهما عن الحياة السرية للرئيس الفرنسي «فرانسواميتران» كتبه صحفي أتيح له أن يطلع على خبايا حياة الرئيس وعلى الرغم من التباين في الكتابين، أسلوباً ومضموناً، ومعلومات فإنهما يشتركان في التغلغل إلى صميم الحياة الداخلية للزعيمين اللذين تركا بصمتيهما الثقيلتين على التاريخ المعاصر، و«هتكا» بعض الأسرار التي كان يحرص الزعيمان على اخفائها عن الناس جميعاً. ‏

لا أريد أن أحرم مجتمع «الكومبارس والأصفار» من متعة قراءة الكتابين ولكنني سأستشهد بمقطعين منهما للاطلاع ولست مولعاً بالتشهير ولا بكشف الفضائح. ‏

يقول طبيب «ماوتسي تونغ» الخاص: كان «ماوتسي تونغ» يكره استخدام الفرشاة لتنظيف أسنانه، كما كان يتخوف من الاستحمام والصابون، كان فراشه عريضاً يتسع لستة أشخاص، وكان يرفض تبديل الشراشف إلا بإيعاز منه وكان يستقدم الفتيات المبتذلات الصغيرات، ويرصهن في فراشه، ولا ينام قبل أن يستمع إلى أحاديثهن الغثة، وأذكر أنه قال لي ذات مرة: ليس أبغض إلى نفسي من محاورة امرأة متحررة تتحدث في السياسية والثورة، انني أفضل عليها الفتاة الجاهلة التي تروي التفاصيل من حياتها اليومية، بكل صراحة وصدق..». ‏

أما الصحفي الفرنسي فقد كتب في مقدمة كتابه: هل يعرف الفرنسيون الذين يستمعون إلى رئيسهم على شاشة التلفزيون وهو يتحدث عن الأمانة والاستقامة والوفاء والحياة العائلية المستقرة أنه يعيش حياة ثانية مع امرأة أخرى، وأنه قد أنجب منها ابنة بلغت من العمر عشرين عاماً؟ وهل يخطر على بالهم أن هذه العائلة غير الشرعية تعيش في شقة غير بعيدة عن قصر الإليزيه، وأن السيد «غروسوفر» الذي انتحر في مكتبه في القصر الجمهوري كان مسؤولا عن هذه العائلة «الأخرى» مالياً وادارياً؟ ‏

-3- ‏
كتاب لا يخلو من امتاع ومؤانسة، استهواني هذا الشهر، لأنه يطرح موضوعاً فضائحياً، وقد يطيب لي أن أستشهد ببعض مقاطع منه: ‏

الأزمة – الفضيحة التي قامت بين السيد «روبير هرسان» مالك صحيفة /الفيغارو/ و ريمون آرون أحد رؤساء تحرير الصحيفة السابقين- على نحو ما يرويها برنارد فرانك في كتاب جديد له دليل قاطع على استحالة التعايش السلمي بين المتمول الذي يعبث بالمال والمثقف الذي يلعب بالألفاظ، فهي علاقة شاذة، لا يحميها الود الذي نشأ بينهما ولا الايديولوجيا الموحدة التي قد تجمعهما ولا المصير المشترك الذي قد يخضعان له لقد انتهت الأزمة باعلان الطلاق الرسمي بين الممول المتغطرس الذي يفاخر بأنه تعاون مع الألمان بدافع من «الدهاء الاقتصادي» والمثقف الرجعي الذي يفاخر بأنه أول من صاغ ايديولوجية كاملة لليمين الفرنسي، على أسس علمية ومقنعة، بعد أن قاما بنشر ثيابهما الداخلية على حبال الصحافة الفرنسية. ‏

قال «ريمون آرون» وهو صاحب كتاب «أفيون المثقفين» الذائع الصيت- في مقالة ساخنة، يعلل فيها أسباب استقالته من /الفيغارو/: هرسان ليس انسانا، انه خزانة مال لها ثقوب تلافيف دماغه معجونة بماء الذهب وألياف قلبه منسوجة من أوراق البنكنوت يحق له -آه كم يحق له- أن يركب أفخر السيارات، وأن يرتدي أغلى الثياب، وأن يأكل أشهى المأكولات، وأن يشرب أعتق الخمور، وأن يعشق أجمل النساء ولكن بشرط واحد إلا يكتب وإذا كان حريصاً على كل هذه المكتسبات فليسمح لنا نحن الذين امتهنوا الكتابة أن ندافع عنه وعن طبقته، وأن نكتب عوضاً عنه.. ‏

وقال هرسان الذي كان يملك إلى جانب الفيغارو عدة صحف فرنسية أخرى ومطاعم وفنادق ومؤسسات اقتصادية، في معرض الدفاع عن موقفه: اشتريت الفيغارو كما أشتري مطعماً أو داراً للسينما فكيف يحق لي أن أدير المطعم أو دار السينما حسبما اشتهي ولا يحق لي أن «ابول إلا بعد الحصول على إذن رسمي من رئيس التحرير بعد أن استقر بي المقام في الصحيفة نجحت في أن أبول دون الحصول على اذن أما الآن فأنا أفعل ما يحلو لي في هذه الصحيفة ما الذي أثار ريمون آرون أنني أردت أن أكتب افتتاحية لكنه يعلم ربما أكثر من غيره بأنني قادر على أن أكلف أياً كان لكتابة الافتتاحية وما علي إلا أن أوقع عليها كما أوقع على فاتورة اعتيادية، ألعله غاضب لأنه يصر على أن يوقع على الفواتير دون أن يدفع الثمن؟ ‏

ذاك نشر للثياب الداخلية على حبال صحافة برجوازية مدانة وذاك فضح للعلاقة الشاذة بين متمول يعبث بالمال ومثقف يلعب لكن الأزمة الفضيحة مطروحة فهل نجحنا في الكشف عنها أم تسترنا عليها بذكاء ودهاء؟ ‏

-4- ‏
يروى أن المليونير الأمريكي هيوز استدعى محاميه، حينما شعر بدنو أجله وقاله له: ‏

أنا أعرف أنني سأموت في الأسبوع المقبل، ولكنني حريص على أن آخذ كل شيء معي إلى القبر، فما العمل؟ ‏

دهش المحامي وقال: ‏

لا أفهم كيف ستأخذ كل شيء معك إلى القبر. ‏

فقل المليونير مؤنباً: ‏

لقد قررت أن أنقل كل ممتلكاتي إلى القبر معي، المطلوب منك أن تبني لي قبراً ضخماً، أن تنقل إليه كل ما أملك من مصانع ومبان وأموال وسيارات، إن ممتلكاتي جزء لا يتجزأ مني إنها عصير ذهني وأعصابي وعرقي ولن أسمح لأحد أن يمتلكها غيري من بعدي! ‏

لا أعرف أياً من القبور دفن فيه المليونير هيوز ولا أعرف ما الذي حدث بمصانعه وسياراته ومبانيه ولكنني قرأت في الصحف الأمريكية أنه رفض أن يكتب وصية، أصر على ضرورة نقل كل شيء إلى القبر بالرغم من استحالة تنفيذ طلبه. ‏

-5- ‏
مصانع الكاتب وسياراته ومبانيه هي حروف متقطعة من أليافه ونسجه، كلمات منقوعة في دمه، ومواقف تختزل كرامة الانسان هذه لعمري الصق وأبقى وفي حين يتخوف هيوز المليونير من فكرة انتقال ممتلكاته إلى الآخرين حتى ولو كانوا من لحمه ودمه، وفي هذا الشح كله والبخل كله لا يملك الكاتب إلا أن يتخلى عن حروفه وكلماته ومواقفه، لتكون ملكاً للآخرين حتى ولو لم تقم بينه وبينهم أية صلة وفي هذا الكرم كله والعطاء كله. ‏

وأية فاجعة تكون حينما يطالب الكاتب بحفرة صغيرة في وطن كبير، فيزعم له أن كل ما قدمه من عرق وجهد ودم لا يؤهله لأن يمنح حفرة في أرض وطنه و«نعوة رسمية» تجيز له دخول مملكة الشرعية الوطنية قبل أن يلفظ أنفاسه. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...