خيبة المثقفين السوريين

13-02-2008

خيبة المثقفين السوريين

كنا في مقهى الروضة، على كتف شارع العابد في قلب دمشق، حين رنّ هاتف أحد الزملاء يدعوه للانضمام إلى «نادي الذاكرة» الذي سينعقد في مقهى الروضة في اليوم التالي، كواحدة من فعاليات «دمشق عاصمة الثقافة»، والتي «نادي الذاكرة» في مقهى الروضةستقام بشكل دوري في أمكنة مماثلة. ضحك الزميل بملء رئتيه، قال إنهم يدعوننا إلى مقهانا، المقهى الذي نقعد فيه كل أيامنا، نكتب ونعشق ونثرثر ونتذكر. وأضاف؛ ها إنهم يتذكرون مثقفي البلد الآن، بعد أن أداروا لهم ظهورهم في حفل فيروز، وما قبل حفل فيروز.
لم يحضر الزميل في اليوم التالي، ولعله طفش إلى مقهى آخر. أما الفعالية فأخذت زاوية مستطيلة في المقهى، نأت بنفسها عنه، وحجزت طاولات خاصة بها. قدمت مشاريب عشوائية لضيوفها القلائل. القلائل إلى حدّ لا يتجاوز عدد أصابع اليدين، إذا وضعنا جانباً ممثلي الاحتفالية. أخذ نصر الدين البحرة، الكاتب الدمشقي المعروف، موقعه وجهاً لوجه مع جمهور «نادي الذاكرة»، ولكن ظهره إلى جمهور المقهى، الذي تابع بدوره دون أن يلتفت؛ الذي يرمي بنرده ظلّ يرميه، والذي يأخذ نَفَساً ظلّ يأخذه، والذي يكتب أو يثرثر أو يتذكر ظلّ على حاله.
بالطبع ليس هنالك أحسن اختياراً من البحرة لافتتاح نادٍ للذاكرة، الدمشقية خصوصاً، فللرجل ذاكرة طيبة، وحديث رشيق وممتع، وتجربة واسعة في حقول الثقافة والإعلام والحياة. وهو قد فرد ذكريات طفولته في دمشق وأحيائها ومقاهيها ومسارحها بطزاجة نادرة. تحدث، وهو ابن حيّ مئذنة الشحم الدمشقي، عن أبواب دمشق، عن بردى وفروعه، عاد حتى إلى عهود الرومان متكهناً بما في باطن الأرض من بقاياهم. وتذكّر البحرة آخر لاعبي خيال الظل أبو عزت الكراكوزاتي الذي كان يعرض في مقهى ملاصق لباب الفراديس في حي العمارة. تحدث عن صالات للسينما ماتت. قال إن دمشق قبل مئة عام، وكان تعدادها لا يتجاوز مئة وسبعين ألفاً، كانت تعجّ بعشرات صالات السينما. فانظروا اليوم إلى دمشق ذات الملايين من البشر وصالات السينما التي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة! تذكر البحرة سينما «روكسي»، التي صارت «الأهرام» في ما بعد، حيث «شاهدنا فيلم «ذهب مع الريح» عام ,1939 والفيلم قد أنتج في السنة ذاتها». وسينما «عائدة» التي غنّت فيها نور الهدى، وكانت تتخذ اسم الكسندرا بدران. وسينما «العباسية» وفرقة عاكف التي عرضت فيها. وسينما «سنترال» التي صارت «الجلاء». و«غازي» و«كوزموغراف» و«رويال». وسينما «الهبرا» التي حولها نزيه الشهبندر إلى استوديو صوّر فيه فيلم «نور وظلال»، الذي احترق ولم يبق منه سوى بعض الصور. وتحدث البحرة بالطبع عن أشهر مقاهي دمشق، ومن بينها «الهافانا»، و«البرازيل» التي كانت ملتقى النخبة من مثقفين وكتاب وسياسيين.
تسعى أمانة «دمشق عاصمة الثقافة» عبر نشاط ثقافي كهذا أن تقترب من يوميات المدينة، وطرائق عيشها. ولكن الناس الذين انتظروا أن تهتمّ بهم «عاصمة الثقافة» من قبل ملّوا الانتظار، أدارت الـ«عاصمة» ظهرها فأداروا ظهورهم. كان حفل الموسيقار السوري نوري اسكندر منذ أيام شاهداً على انفضاض الناس، لم تستطع الاحتفالية أن تملأ ربع الصالة، لحفلٍ واحد، لموسيقار سوري بهذا الحجم. لعل لسان حال الناس يقول؛ ها قد ذهبت فيروز، فماذا أنتم فاعلون؟
تريد الـ«عاصمة» أن تتوجه إلى الناس حيث هم، في أماكنهم، وتخترع فعاليات لتطرحها في أمكنة بديلة، من شوارع وساحات ومتاحف وبيوت دمشقية وأمكنة تاريخية، ولا شك أن المقهى هو المكان الأكثر حميمية ومعنى لتبنى فيه أعمال إبـداعية تحاور الناس، تسلّيهم وتمتعهم. كانت تلك مشاريع وخطط صفقنا لها كثيراً وشجعناها، ولكن دعونا و«الأمــانة» نتســاءل؛ لماذا أدار الناس في المقهى ظــهورهم لـ«نادي الذاكرة» يوم أمس؟

راشد عيسى

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...