حمام بغدادي: نص كتب لمتفرج لا يعرف العراق من الداخل

26-01-2009

حمام بغدادي: نص كتب لمتفرج لا يعرف العراق من الداخل

لا بد ان مشاهدي »حمام بغدادي«، العائدة الى مسرح بابل سيفاجأون بقوة التمثيل لدى ممثلَيْها، أنهما ممثلان مسيطران لا تمنعهما عقبات عدة من بينها الفصحى والمبالغة والتشنج أحياناً من السيطرة، ولا تمنع العقبات نفسها النص من ان يبدو متحركا مفخخا، اما الاخراج فغايته تقريبا هذه السيطرة. هذه غاية الجو الهيتشكوكي المنذر الملغز بكل مصاحباته الموسيقية والصوتية وخلائه الديكوري. إنه بدون أن يستلزم النص هذا دائماً يجمع العمل كله في لحظة متوترة. التناغم الصارم والعصي هو عماد عمل مسرحي ذي بناء نحتي، بل وذا بناء قابض يجمع الشوارد كلها، وإن شتّ بعضها ويحولها الى إيقاع آسر لا يفلت منه شيء. السيطرة غرض الاخراج والمتفرج تحت وطأة العمل الذي لا يتراخى لحظة ولا يترك له ان يتراخى او يسترخي. الايقاع حتى ولو اقتضى بعض التكرار وبعض الاعادة. اغماضة عيني الممثل الاول »فايز قزق« والجملة التي تخرج من بين اسنانه كما ان تمليس الممثل الثاني (نضال سيجري) الرأس براحة اليد هي من هذا التوقيع، الواضح ان الشخصية لا تحتاج الى وقت لتستوي قائمة، ان بناءها يتم بسرعة بدءاً من معالم كهذه، وهي منذ استوائها ستتطور في النطاق العصبي ذاته. يستطيع جواد الأسدي أن يستولد لحظته المسرحية من عناصر أكاديمية وحديثة، لكنه يتجه بسرعة الى وحدة بناء والى ايجاد زمن مسرحي يتم احياناً تهريب عناصر مشتتة الى داخله. هكذا يفوتنا في حمام بغدادي وبسبب أسر الايقاع ان ننتبه الى استطراد النص والى قدر من »تركيباته« كما اننا نوافق بدون تحرج على هذا التكرار الملحمي (الجنود، الجنود، الجنود)، كما اننا نتسامح مع كوميديا الحبل في الفصل الثاني التي لم تظهر طاقتها الكوميدية، كما اننا ننتظر بدون تعب ان يتضح اكثر التباس العلاقة بين الأخوين اما الذي استطاع الشحن الدرامي أن يموّهه أكثر في المسرحية فهو النص السياسي.
ليس نص الأسدي بريخيتا وان اوهم النقاش بين الأخوين بأننا في معرض تحليل للعلاقات بينهما. الشخصيتان لا تبنيان من فراغ، لكنهما متضادتان من الاول، ولا نجد في هذا التضاد سوى قسمة كاملة، لا نتكلم عن الخير والشر، لكننا نتكلم عن سلسلتين سياسيتين. الموالاة للأميركان في العراق تقترن ولا بد بالكذب والعدوانية حتى تجاه الأخ والاستبداد والتخلي العائلي إلى درجة الغياب عن جنازة الأب وأيضاً المخدرات والسكر. بينما المعاداة للاميركان تقترن بكل ما يتضاد مع هذا، مع الصدق والنزاهة ومحبة القريب ولو كان أخاً معتدياً والرضا بالخصاصة والفقر وبالطبع الامتناع عن السكر والمخدرات. الا أننا نجد ان هاتين السلسلتين ساذجتان وانهما منمطتان من الاول، وان التحليل هنا لا يخفي ان الخير خير من الاول والشر شر من البداية، بل ان الخير خير مطلق (ولو بمفاهيم بعضها شعبي) والشر شر مطلق. لا نفهم بالطبع لماذا تستوجب موالاة الأميركان بعقوق الأهل وضرب الأخوة والسكر والمخدرات. هل نفهم ان التدين على سبيل المثال او الحب العائلي يحولان دون التعامل مع الأميركيين؟ اين هو الالتباس في قسمة كهذه؟ أين هو العالق الملتبس المتواشج في علاقة اخوين لا نراهما إلا معاً؟ اين هو »التركيب« في شخصية كل من هذين؟ ثم اين كل هذا من الالتباس العراقي اليوم؟ ألا يعني ذلك اننا امام رؤية تستعاد فيها قصة الأقنومين والفسطاطين ثم هل تختصر الموالاة والمعاداة للأميركان حكاية العراق اليوم؟ أين »القاعدة« والحرب الأهلية على اقــلال. الا تشــــعر ان النص كتب لمتفرج عام لا يعرف العراق من الداخل ولا يجادل في الكليشهات العامة عن العـــراق؟ أعجب من أن يُهدر نص لا تخفى قوة بعضه في رؤية كهذه.

 

عباس بيضون

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...