جون إيرفينغ: لغة همنغواي المختزلة، لغة السكرتاريا، إنها مملة

28-01-2011

جون إيرفينغ: لغة همنغواي المختزلة، لغة السكرتاريا، إنها مملة

ولد الروائي الأميركي جون إيرفينغ في مدينة «إكستر» (ولاية نيو هامبشاير) عام 1942، وقد تابع في شبابه محترفات الكتابة التي كان يحييها كورت فونغات، الذي يعد واحدا من كبار كتاب الولايات المتحدة. هذه المحترفات، وسمته بطريقة كبيرة وجعلته يحسم أمره بالتفرغ للكتابة.
لم تعرف رواياته الثلاث الأول أي نجاح، ومضت من دون أن ينتبه لها أحد. من هنا ولكسب قوته، بدأ بتعليم الأدب وليتفرغ أيضا لشغفه الآخر، ممارسة رياضة المصارعة الحرة عبر تدريبها. بيد أن روايته «العالم بحسب غارب» التي صدرت عام 1976 فتحت أمامه أبواب المجد، لتجعله واحدا من كبار كتاب الولايات المتحدة في العصر الحديث. وهذا ما أكدته الروايات اللاحقة مثل «فندق نيو هامبشاير» و«تحفة الله»، و«حصة إبليس» (التي اقتبسها بنفسه للسينما ليحوز عنها أوسكار أفضل سيناريو) و«أرملة من ورق» وغيرها من الكتب التي وسمت عددا كبيرا من الأجيال التي أتت بعده.
مؤخرا، صدرت له رواية جديدة بعنوان «الليلة الأخيرة في تويستيد ريفر»، وقد ترجمت إلى عدد من اللغات. بعد صدور الترجمة الفرنسية مؤخرا عن منشورات «لو سوي» أجرت مجلة «الاكسبرس» الفرنسية حوارا طويلا مع الكاتب، حول الرواية كما حول عمله ككاتب. هنا ترجمة لمقتطفات من هذا الحوار، التي تقدم لمحة عن هذا الكاتب، الذي – على حد علمي – لم تعرفه بعد المكتبة العربية.
تبدو على ما يرام. أما زلت تمارس الرياضة؟
أنا في الثامنة والستين. وفي هذا العمر لا نعود الشخص الذي كنا عليه. أمارس رياضة الجري أو كرة المضرب كل يوم. وحين يكون أصغر الأبناء موجودا، أزاول القليل من المصارعة. أشعر بأني أكثر هدوءا مما كنت عليه في الماضي. الوحدة حالة تناسبني أكثر فأكثر. لقد أصبح اليوم أبنائي راشدين. وأرغب في أن أراهم باطّراد - ربما هذا هو ندمي الوحيد الآن. أتيقن اليوم من الحظ الذي حالفني. لا أتحدث عن النجاح إذ يمكن أن يتوقف بين يوم وآخر. كلا، يكمن حظي في أنني أمارس مهنة لا تشعرني بأنه يتوجب عليّ التقاعد. فقط أفكر بأنه يجب أن أكتب روايات أقصر مما كتبته!
هذا يعني أن رواية «الليلة الأخيرة في تويستيد ريفر» ليست اقصر من رواياتك الكبيرة... ولا مشكلة في هذا الأمر بتاتا! كيف ولدت حبكة هذه الرواية، وبخاصة الشخصيات التي تبدو وكأنها خلاصة لكل الشخصيات التي التقينا بها في كتبك السابقة؟
بالضبط، تملك شخصيات «الليلة الأخيرة في تويستد ريفر» خاصية كونها خليطا، كون كل واحدة منها مأخوذة من عدة شخصيات سبق لنا أن التقينا بهم في رواياتي السابقة. ربما لذلك علاقة بأني أحمل هذا الكتاب في رأسي منذ عشرين سنة على الأقل. حين بدأت في كتابته أخيرا، كنت أتخيل وأعرف أحداث هذه القصة أكثر مما كنت أعرف أحداث رواياتي السابقة. كان يمكن لي أن اكتبها منذ عشر سنوات. كنت أعرف أنها ستكون قصة هاربين، بأن الوالد وابنه سيهربان، أعرف عمر الولد بالضبط إذ أنه في عمر يسمح له بالتفكير بالجنس، بيد أنه ليس كبيرا كفاية ليمارسه، كما أعرف بأنه سيصبح كاتبا. هذه النقطة الأخيرة كانت تدهشني لأنها تشكل مهنتي كما لأننا نلتقي بالعديد من الكتّاب في الروايات السابقة.

أولى هذه الشخصيات العجوز غارب؟..
في الواقع، وفي حالة داني، قبل أن ابدأ بكتابة قصته، كنت أعرف بأنني أرغب في محاولة بنائه، من وجهة نظر نفسية، أي رسم الحالات التي جعلته يرغب في أن يصبح كاتبا، بطريقة يشعر معها بالحاجة تقريبا لأن يصبح كاتبا حتى قبل أن يكتشف أنه يملك موهبة ذلك. إنها نقطة أساسية بالنسبة إليّ. أعتقد أنها النقطة التي يجب علينا أن نبحث عنها عند كل كاتب، أليس كذلك؟ ثمة شيء نفسي دفع داني إلى العيش في الداخل، في روحه، في خياله، أكثر مما جعله يستفيد من الحياة. وأنبهكم في الحال: هذه المسلمة صالحة للشخصية التي أبدعتها، داني، وهي غير صالحة لي. لذلك بدل سؤالك التالي إن كان: «وأنتيا جون، ما هو الأمر النفسي الذي دفعك إلى العيش في الداخل بدلا من أن تستفيد من الحياة؟».
حسنا، بكلّ الأحوال لقد أجبت عن هذا السؤال خلال حواري الأخــير معك، منذ أربع سنوات. يكفي أن نعود إلى مجلة «لير» عدد أوكتوبر 2006..
بالضبط. علينا دائما إعادة فتح الأرشيف!
هل أنت متمسك بذلك؟ اسمح لي بأن أخرج لك شيئا: «أرتعب من رؤية كاتب ينهمك في استثمار شهرته، في نشر كل البراز الموجود في أدراجه، وفي إعادة نشر البراز القديم الذي لم يكن عليه أن ينشره». من كتب هذه الجملة؟
لا أعرف. هل هو أنا؟
بالضبط! في رواية «العالم بحسب غارب».. كان ذلك عام 1976.
لا زلت أفكر بالطريقة عينها. لهذا السبب أعمل كثيرا ولهذا تجد على الأقل خمس سنوات بين رواية وأخرى.
كيف تكتب؟
أكتب الدفعات الأولى على دفاتر من جميع الأنواع، ولكن دائما على جانب واحد من الصفحات المزدوجة كي أستطيع أن أضع كلمات أو كراسات على الصفحة البيضاء المقابلة. أكتب كل شيء بخط يدي. الرواية كلها. هكذا أيضا أكتب مسوداتي. وإن حدث وبدأت بفصل جديد، بينما أنا أكتب فصلا آخر، أقلب الدفتر الذي أكتب عليه وأبدأ بتسويد الجهة الأخرى. أستعمل دائما دفاتر بيضاء... أفضل الكتابة بخط اليد لأنني أكتب بسرعة حين أستعمل «الكلافييه» أكان ذلك مع الآلة الكاتبة أو حاسوبي المحمول. الدفعة الأولى غالبا ما تكون سريعة أكثر مما ارغب، وبخاصة أسرع مما يجب لكتابة شيء جيد. الكتابة بخط اليد يجبرني على التمهل. وهذا ما يسمح لي بالتحكم بأسلوبي. يمكنك أن ترى الفرق بين مخطوطاتي وبين ما أطبعه على الآلة. على الآلة أرتكب الكثير من الأخطاء لأنني أكتب بسرعة. بالنسبة إلى كتابة رواية لا أستعمل الآلة الكاتبة أو الحاسوب إلا حين أصحح مخطوطي: وهنا لا أخشى المضي بسرعة لأنني أعرف القصة، أعرف كل مقطع.
ما الأهم بالنسبة إليك، الحبكة أو الأسلوب؟
الأهم من الأمرين هو اللغة. حين ابدأ بكتابة رواية، أعرف مسبقا كلّ ما سيجري. إذ تكون الحبكة في موقعها. من هنا أصبح أكثر انتباها للغة، أكثر تركيزا، لأنني عندها لا أتساءل: «في أي لحظة سيظهر فلان؟» لأنني اعرف أنه سيظهر في هذه اللحظة أو تلك: ستمضي خمسين سنة قبل أن يظهر من جديد. إذا، وبما أنني لست مضطرا على التفكير بهذه الأشياء، أركز على ما أكتبه: «إنه مقطع توصيفي، عليّ المضي بهدوء، على الجمل أن تكون قصيرة؛ هذا هو الحوار المناسب...» هذا هو عمل الكاتب.
ما رأيك بهذا التيار الكتاب الذي، مع همنغواي، يجد عكس ما تقوله والذي ينادي بالذهاب مباشرة إلى الأساسي، أي علينا أن نكتب بطريقة أكثر قرباً من أنفسنا؟
كل ذلك يشكل جزءا من ذكورية همنغواي المزيفة. البشر مهمون لأنهم لا يستطيعون أبداً قول شيء شخصي... أي حماقة في ذلك. إنه مهرب، كان همنغواي يستعمل أقل الكلمات الممكنة في جمله. كان يسحره ذلك. لا أعرف السبب. إن كنت ترغب في الجري، هل تعلق ساقاً بمؤخرتك وتبدأ بالقفز؟ أنا لا أفعل ذلك، أحب أن تكون لدي ساقان صلبتان! أعتقد أن همنغواي كان يمثل نقيض دعوة سوفوكل وشكسبير أو دعوة كل كتّاب القرن التاسع عشر الذين كانوا يكتبون مطولا بطريقة رائعة، بطريقة بطيئة، الذين كانوا يطورون الأشياء مع مرور الوقت والصفحات.. يتحدث الجميع عن لغة همنغواي المختزلة. إنها لغة السكرتاريا. هذا هو كل شيء ببساطة. إنه أسلوب ممل.

لنعد إليك. في روايتك الأخيرة، تقدم إلينا تأملا حول «نظام» الخيال والرواية، حين لا يتوقف دومينيك، الطبّاخ، الذي هو والد الكاتب، عن سؤال ابنه عما هو حقيقي في رواياته. هل هذا سؤال لا تزال تواجهه؟
أجل، ليس فقط حين يأتي صحافي فرنسي ليزورني كلما أصدر رواية.. أعرف أن عائلتي تفعل ذلك بانتظام.
إلى أيّ حدّ تعتقد أن سيرة الكاتب ضرورية كي نفهم أدبه؟
لنأخذ حالة داني، الكاتب في رواية «الليلة الأخيرة...». نجد أن سلوكه ككاتب مرتبط غريزيا وبقدر الإمكان بحياتي أنا. لم يتخرج فقط من المدارس عينها التي كنت فيها، ولكننا نجد أن عمره في مثل سنّي، وأنه بدأ بكتابة رواية من النهاية، وهذا ما أفعله دائما. من هنا يمكننا أن نفكر، وبطريقة شرعية، بعد أن نقرأ هذا الحوار الذي نجريه الآن، بأن داني هو قريني. حسنا. ولكن ليست هذه هي الحالة الصحيحة. لقد كتبت حياة مختلفة، متناقضة مع حياتي. لقد كان سيئ الحظ، على عكسي أنا الذي كنت محظوظا جدا. كل الذي يحبهم كان يفقدهم؛ كل الذين يخشى أن يفقدهم، كان يفقدهم ولحسن حظي لم أعرف هذا الأمر لغاية الآن. ثمة تناقض غريب في هذا! جعلته شبيهي بصفته كاتبا، لكنه شبيه أخشى أن أصبح مثله في الحياة. في النتيجة، أكتب عما أخافه لا عن الأحداث التي عرفتها...
من هم الكتّاب الذين تحبهم؟ الذين وسموك، الذين أثروا بك؟
تشارلز ديكنز، في البداية. بسبب ما كتبه عن اللاعدالة الاجتماعية وعن الاهتمام بالطفولة وعما جرى فيها من أحداث لشخص ما، وهي أحداث تحدد ما سيكون عليه في سن الرشد. لهذه الأسباب تقريبا أعشق ديكنز وأحترمه. ثمة سبب آخر: ديكنز هو واحد من الروائيين النادرين الجديرين بأن يذهبوا بعيدا في الشجون في لحظة ما ومن ثم يصبح مضحكا وساخرا – بطريقة مسرحية – في لحظة أخرى. الكوميديا والجدية، عند ديكنز، يتعاقبان بدون توقف. هناك أيضا توماس هاردي. كل شيء جدي عنده، دائما، بيد أن لغته رائعة. ما أعشقه عنده هذا التحديد المسبق للأشياء. في رواياته، نجد أن كل واحد يملك مصيرا. كل أشخاصه محكومون. هذه الدرجة من القدريــة التي ترفرف فوق القصة هي من الأمور التي استخدمتها أكثر من مرة في كتبي. كل رواياتي تملك جزءا من هذه القدرية لدرجة أني اعرف ماذا سيحدث قبل أن أبدأ الكتابة...
كيف أصبحت كاتبا؟
بدأت بكتابة يومياتي حين كنت في الرابعة عشرة من عمري. وفي الوقت عينه بدأت بممارسة رياضة المصارعة. من هذه اللعبة الرياضية استللت جذوري. وبدءا من تلك اللحظة بدأت أكتب كل يوم. وحين بدأت أقرأ القصص وروايات القرن التاسع عشر وتوماس هاردي وتشارلز ديكنز قلت لنفسي: «هذا ما أتمنى أن أفعله في حياتي. أن أروي قصصا مماثلة». أول قصة كتبتها كانت تقع في 90 صفحة وقال لي أستاذي، الذي أطلعته عليها: «إنها ليست قصة». أجبته بأني ربما أنا في طريقي لأن أصبح روائيا لا قاصاً.

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...