العرض الفرنسي التونسي (حتى إلي يعود)

08-12-2010

العرض الفرنسي التونسي (حتى إلي يعود)

العرض المسرحي الفرنسي التونسي الذي قدّم على خشبة مسرح الدراما في دار الأسد للثقافة والفنون ضمن مهرجان دمشق المسرحي الخامس عشر لم يكن عرضاً عادياً، بل كان عرضاً إيمائياً مئة بالمئة؛ حيث تم الاعتماد على البنية البصرية بشكل أساسي،..

كما جاء مغايراً لكل التوقعات من خلال اعتماده فلسفة مختلفة عن طبيعة المنطق العقلاني، وكذلك اختراقه لكل المجالات المسرحية الكلاسيكية، وحتى المعاصرة، ومن دون أن نضع في الحسبان أو في التقديم أيّاً من تلك القوانين التي تستخدم في العروض الكلاسيكية في كل المراحل التي مر بها المسرح، وربما تلك المجموعة من التحوّلات في الإيقاع الموسيقي وحركة الجسد والصور المتعددة تشير إلى حالة الصيرورة التي تمر بالإنسامن العرض الفرنسي التونسين المعاصر من جهة وتاريخ الفكر البشري بشكل عام من جهة أخرى، بالتوافق مع تغيرات الزمن.. ‏

‏وفي تلك الالتواءات والانحناءات والتمددات والتقلصات التي كانت تظهر في معظم المشاهد كأنما تريد أن تثبت أن ليس للكائن البشري كتلة روحية ماهوية ثابتة أو متجانسة ولا وحدة متماهية مع نفسها، وليس الإنسان جوهراً متماسكاً متوحداً مع ذاته، ولا هو ماهية راسخة، بل هو كائن متغيّر يتبدل، ويتطوّر، ويتلوّن ويتقلص ويتزأبق وفقاً لمعترك التغيرات الطارئة والعارضة.. كما نجد بأنها تشير إلى حالة الفوضى الداخلية من الناحية الإيحائية التعبيرية؛ فالضحكة الوحيدة التي سمعناها من الفتاتين كان فيها سخرية واضحة،.. ورغم مشهد العناق الحميمي إلا أننا لم نجد عاطفة حقيقية، بل كانت مشحونة بحالات نفسية فصامية تسيطر عليها الحالة «الشيزوفرينية» والتشظي واللاسكون.. وأكبر دليل على ذلك هو مرور عدد من الفترات الزمنية في العرض التي سيطرت عليه الحركة ولغة الجسد مع صمت تام بالموسيقا، وأيضاً الموسيقا التي سادها نوع من عدم الضبط والتقطيع، وكأنها تشير إلى العقل الراهن وما يعتريه من تقويض ورفض لكل النظريات التامة أو الكاملة أو النهائية، وكأنها تشير إلى حالة الاضطراب أو المصير المجهول، عبر لوحات تتداخل في تكوينات هارمونية.. إيمائية.. وباليه تعبيري ممتزج بمقطع وحيد من الرقص الشرقي ضمن تشكيل بصري اعتمد على الإضاءة والتقنيات المعاصرة.. من خلال المقاطع المسجلة وإسقاطها على الشاشات كمرايا عاكسة متعددة.. وفي تزاوج سينوغرافي كوريوغرافي شبه تام ما بين العتمة والضوء.. وبشكل صامت تماماً وعلى إيقاعات موسيقا يغلب عليها النموذج الالكتروني والإيقاعي رقصت بطلتا العمل بحركات التوائية وانحنائية مرنة لتعبرا عن علاقة ما بينهما وما تضمره هذه العلاقة من مشاعر متعددة ومتناقضة في الوقت ذاته.. وقد لعبت السينوغرافيا دور البطولة في العمل من خلال اعتمادها على التقنيات البصرية بالدرجة الأولى التي استطاعت أن تقدم فكرة تكرار الذات عن طريق شاشات إسقاطية تظهر الراقصة في حركات مختلفة عن حركاتها الأصلية التي تؤديها على الخشبة إلى درجة يصعب فيها أحياناً التمييز بين الوجود الحقيقي للراقصة وبين تسجيل الفيديو لها؛ فتبدو الراقصة في حالتين أو ثلاث حالات، تتماهى أحياناً مع ذاتها وتندمج ضمن المقطع التسجيلي بحركات متواترة.. كما لعبت فكرة تراكب الصور دوراً هاماً في اندماج الراقصتين وتماهيهما حيث نجدهما يتداخلان ببعضهما من خلال رقصة حقيقية وأخرى في صورة تسجيلية لينتهي هذا التماهي إلى تماه حي ومباشر على الخشبة.. وجاء الدور المتميز للسينوغرافيا من خلال الإضاءة التي وصلت إلى درجة عالية من التركيز وتحقيق الفصل الواضح بين العتمة والظل والضوء، مترافقاً ذلك مع ظهور واختفاء الممثلتين بحيث تتحول الخشبة بشكل مفاجئ من مكان خاوٍ إلى مكان يعج بالحركة.. كما تم تدمير البناء المنطقي والمتوقّع للمسرح التقليدي من خلال خرق طبيعة استخدام اللغة المسرحية، حيث حاولت الفانتازيا التي ارتكز عليها العمل إبراز صيغ وأشكال فنية عبّرت عن حالات نفسية سيكولوجية رمزية من خلال انعكاس المرايا.. فظهور أكثر من وجه الشخصية ذاتها في الوقت ذاته دليل على حالة الصراع القائم عند الإنسان المتخبط في مجتمع تسوده السوداوية وعدم الوضوح والتعددية المتلوّنة،.. صوت وحيد صدر على شكل ضحك الراقصين: هل كان نوع من السخرية لحالة العلاقات الاجتماعية غير الصادقة في المجتمع.. كما نرى عدداً من الصور/اللوحات الراقصة تعبر عن العزلة وتوحي بانغلاق الإنسان على الذات.. وبالخيال المفرط والتفكك من خلال عدد من الصور التي تظهر بالوقت ذاته للراقصة نفسها.. ‏

حالات توحي بالتمرد والرفض عبر التواءات تداخلت فيها عدد من الصور، وكأنما تتنازع البطلتين رغبات مكبوتة تريدان أن تطلقا لها العنان؛ تريدان لنفسيهما ولادة جديدة/حرة غير مقيدة، غير عابئة بكل شيء تكسر وتحطم كل القيود.. مشاهد تعبّر عن حالات معاناة.. مشاهد تعبر عن حياة روحية بكاملها.. الصمت الشديد الذي خيّم على معظم الفقرات/الفترات من زمن العرض اعتمدت على حركات الراقصات فقط يدل على أن العرض عرض إيمائي بانتوميمي بامتياز عبر لا زمانية وبوسائل تعبيرية تخوض عميقاً بداخل النفس البشرية.. وفي معظم المشاهد التي تدل على حالة الصراع التخييلي بين الحلم والواقع.. حالات مجابهة تخييلية تسعى إلى العيش في عالم أفضل تقاوم انهيار الحلم، وفي ظل هذه المحاولات التي تعبّر عن الفوضى الوجودية داخل مجتمعات البشر أو المجتمع الإنساني غير المستقر والمتزعزع.. ‏

وفي وجه آخر للعرض إذا ما أخذنا الفتاتين كمفردة من مفردات الوجه التأويلي يمكن أن نرى حالات التحوّل والصراع بين الخير والشر حيث نراهما في حالة ديناميكية متغيّرة، ومتبدّلة تتكاثر الواحدة منهما بتعددية الصور، وتتداخل مع ذاتها، تختفي الأخرى وتظهر من جديد.. ثم تتداخلان، فيها إشارة إلى اختلاط الخير بالشر/الظالم بالمظلوم.. ولكن إذا ما أخذنا العنوان كمفتاحية (حتى إليّ يعود) عبر وجه تأويلي آخر فهو يعبّر أن شيئاً ما فقد، وتحاول البطلتان استعادته.. أو المطالبة به.. ربما يكون.. الحلم،.. وتشير معظم اللوحات التي تؤكّد أنها في حالة صراع.. مقاومة.. إثبات الذات.. وربما الصحو الذي جاء في مشهد أقرب إلى الإيحاء الإيروتيكي والضحكة الهستيرية الساخرة التي تشير إلى صحوة ما.. وربما فيها إشارة أخرى إلى غياب الضمير.. من خلال ما اكتظ به العرض من إشارات ودلالات غريبة لا واعية أبعد ما تكون عن المنطق والعقلانية.. وفيها دلالة. ‏

إذاً العرض اعتمد على الاستثمار المركّز على الحركات والإشارات والرقص الإيمائي ونرى ذلك واضحاً في كثير من المشاهد الصامتة إلا من الحركة التي تعبّر تماماً عن الإنسان المستلب في إطار آلية ومنطق العلاقات السلبية السائدة في العصر الراهن وهنا يكون المفقود هو الحرية أو بالضبط منطق الحرية الإنساني، كما فيها إشارة واضحة إلى ضآلة الإنسان في هذا العالم التقني الذي اعتمد على التكنولوجيا التي سلبت احترام الإنسان لأخيه الإنسان، وكدليل نجد الاعتماد الكبير في المسرحيّة على منطق التكنولوجيا المعاصرة في تعددية الصور وتكثيرها التي أغنت العرض بصور من الشبحية الوهمية غير الحيّة وغير الحقيقية المماثلة عبر خيالات كبيرة وصغيرة تداخلت واستطالت وافترقت وكلها بتأثير الآلة الحديثة. ‏

 

سمير المحمود

المصدر: صحيفة تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...