البنات

03-10-2007

البنات

تذهب البنات إلى المدرسة الواقعة في شارع فاداس: غالباً ما نلتقيهن، يخرجن إلى الشارع الرئيسي جماعةً بألوانهن الزاهية، يوشوشن في آذان بعضهن البعض ويقهقهن. تتدلى الشرائط الحمر والزرق المربوطة بضفائرهن، ثلاث ـ- أربع منهن يتجمعن متأبطاتٍ أذرع بعضهن البعض، تهمس إحداهن شيئا ما، لتبدأ الأخريات بالضحك.
أنظر إليهن بعدائية وحسد وعدم الفهم. تُرى على أي نوع من الغباء أو الحماقة يضحكن دائماً؟ وبماذا يوشوشن؟ إذا اجتمعت بنتان، تبدآن فوراً بالوشوشة. تضحكان على أشياء مبهمة. أصبحُ جاداً، يساورني الشك وبإحساس سيئ أرفع حاجبَيَّ.
لا بد أن هناك شيئا دنيئاً، وقحاً، وقذراً في هذا العالم، لا يعلم به آخر غيرهن، يتحدثن دائماً عنه، ينظرن إليَّ بخبث وسخرية ثم يهربن. تُرى ما الذي يمكن أن يكون ذلك؟
إنهن يعرفن شيئا أجهله أنا. في الحقيقة أنهن غبيات وغير موهوبات، لا يجمعن حشرات ولا نباتات، ولا حتى طوابع. لا يصنعن قنينة ليدن. حدث ذات يوم كسوف الشمس، ومر ظل القمر أمام قرص الشمس. لأيام عديدة وأنا أستعد له، طليت الزجاجة بالسخام، وانتظرت بقلب خافق الوقت المحدد الذي أعلن عنه الفلكيون.
صرخت مأخوذا مهلّلاً ـ وبيدي الزجاجة السوداء أبحث عن أحد لأقول له ما يحدث هناك في الأعالي على بعد مليار كيلومتر. لم يكن هناك سوى بعضهن من معارفنا في الغرفة الثانية، ركضتُ أدعوهن بحماسة كي يأتين بسرعة، لأن لعبة الألوان الرائعة ستظل لدقائق فقط. كان من المستحيل التأثير على أيٍّ منهن كي تأتي إلى الغرفة المطلة على الشارع.
كن يضحكن على شيء تافه، سخرن مني قائلات: دعنا وشأننا. شرحتُ لهن بغضب مشوّراً بيدي، بأن الموضوع يخص ظاهرة عظيمة نادرة ستنتهي في الحال، لم أطلب منهن سوى أن يأتين إلى الغرفة المطلة على الشارع، صرختُ بمرارة. رددن على شيء سخيف، على كلمة ذات مفهومين، وبدأن النحيب، لم يأتين، ولم يرين الحدث الكبير.
ولكن ما الذي يمكن أن يكون ذلك يا تُرى ـ لأن بهن شيئا ما. شيء يعرفه الجميع إلا أنا، لأنهم بسببه يعاملون البنات وكأنهن مميزات، وهن يدركن ذلك جيدا. كنت طفلا عندما قال لي أقربائي:
- هكذا تترك الآنسة واقفة وتجلس أنت؟ ألا تخجل؟ أي فارس ستصبح في المستقبل؟
كان عليَّ أن أقف لأترك الكرسي المريح، كي تجلس عليه القردة الصغيرة التي تلبس ثوب الدانتيل. اتقد وجهي خجلا وغضبا، ـ لماذا؟ ما هذه الأفضلية الحمقاء غير العادلة والمنافية للشرع؟ لو صفعتها ستسقط من على الكرسي. ولكن في إمكانها أن تصفعني وتذلّني، لأنها أضعف لا غير، وعلى هذا الأساس يجب ألا أرد الصفعة لأن ذلك لا يناسب شهامتي؟ ألا ترون أنها تعلم ذلك وتضحك علينا، وتسترخي عليه بارتياح؟
لماذا؟ لماذا. ما الذي يمكن أن يكون هذا؟
لا أحد يؤذي البنات. وهنّ طفلات في الصف الثاني، لا يخاطبهن المعلمون بلغة الأنتِ، ولا يضربونهن على رؤوسهن، يكلمونهن بأدب. وفي المرحلة العليا من الدراسة الابتدائية ينادونهن بالآنسات. المعلمون الشباب يسبقونهن بتأدية التحية في الشارع ـ إنهن محاطات برقة ونعومة لا مثيل لهما! ـ وأنا في الأمس حصلت على لكمة خلال العراك، لم أستطع التنفس طوال النهار. لو أقلها، سيأتيني الجواب: تستحق ذلك، لماذا لا تصفعه، ألا تخجل؟ فأجيب: ولكن هو البادئ يا حضرة المعلم.
- وأنا لا أحد يدافع عني؟
- ألا تخجل؟ أيجب الدفاع عن ولد بالغ، أي جندي ستصبح؟
- حسنا، هذه هي الجندية! نستعد لها في درس الرياضة في التمارين الحرة، وفي المسيرة. ستكون مهمة صعبة، أعرف، سمعت عنها الكثير. سرير بارد، حقيبة على ظهري، نسير حتى تخور قوانا، بندقية وحربة. حسنا، إنه شيء جميل وحماسي، أجل أعرفه، وأتوق إليه.
- ولكن لماذا نحن فقط؟ يجب حماية الوطن. من لا يجازف بحياته من أجل الوطن، جبان ورديء السمعة. حسناً! وهنّ؟ لماذا لسن جبانات ولا سيئات السمعة؟ لا يخطر في بالهن التضحية بحياتهن من أجل الوطن - لا يعرفن سوى الضحك والغنج: ومع ذلك لا أحد يقول عنهن جبانات ورديئات السمعة، إضافة إلى أنهم يقدمونهن لنا كمثل أعلى. يجب حماية النساء، الجنس اللطيف! يجب التضحية من أجل الملك والوطن والنساء! البنات ملكات إذاً؟
لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟   
لماذا وفي كل مكان، دائما هذا الاستثناء، هذا التسامح، هذا التعظيم، لماذا، لماذا؟
يجب علينا الوقوف لهنّ في الترام ـ يجب أن تُقدَم لهن أشهى لقمة، وإذا سقط من أيديهن شيء ما، يقفْن بتكاسل وارتياح، وكأن ذلك قانوناً طبيعياً وهو عليّ أن أنحني بدلا منهن. وعندما يطرقن باب الثامنة عشرة، يبدأون بتقبيل أياديهن كأيادي الأساقفة المسنين الذين كرسوا حياتهم وجهدهم في العمل والتبرّك. في الشارع يجب أن نفسح لهن المجال على جهة اليمين. إذاً لماذا؟  وهنّ ماذا يفعلن، ماذا يمنحن الآخرين، ولماذا يجب احترامهن؟
إنهن غير مثقفات، حمقاوات، كسولات وبلا عمل. يكبرن في ظل التسلية، يتزوجن ـ وابتداءً من تلك اللحظة، يعمل الأزواج عوضا عنهن كي يقوموا بإعالتهن. ولادتهن هي شراؤهن الحياة ببطاقة مجانية ـ بينما علينا نحن أن نصارع بجهد كي نثبت في كل لحظة مراراً وتكراراً بأن لنا الحق في الحياة.
ولكن لماذا، لماذا، لماذا؟
   يثرثر الأولاد في المدرسة عن شيء مخجل وسخيف. لا، هذه استحالة، تفاهة، غير ممكن. هناك سر يحوم، هذا مؤكد - لكن هذا جنون، مستحيل أن يكون هذا السر. بكل تأكيد هذه نكتة غبية، وشيء تافه - وهل فراغ توريتشللي، أو عنصر لكلانشيه فقط أكثر إثارة من ذلك الشيء؟
لماذا؟ لماذا؟
أشعر بأني ذات يوم سأفهم سرهنَّ. أخاف من ذلك اليوم ـ في ذلك اليوم سأغيب في الحشد الرمادي: وفي ذلك اليوم سأتوصل إلى أني أيضا سأصبح واحدا من هؤلاء القادمين في اتجاهي هنا في الشارع، أجل، في ذلك اليوم سوف أنسى الصف، وعنصر لكلانشيه، وجمع النباتات، وسأنسى نفسي.

ترجمة اعتقال الطائي

فريجش كارينتي     

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...