الإسلام والمسلمون

22-07-2006

الإسلام والمسلمون

من البديهي أن يجب التفريق بين الإسلام في مبادئه وتعاليمه، كما يدل عليه القرآن الكريم، والسنة الصحيحة، وبين أعمال المسلمين من وقت أن اعتقوا الإسلام إلى اليوم، فمن أراد الحكم على
الإسلام فليرجع إلى أصوله الأولى، وينظر إلى جوهر تعاليمه ويزنها بميزان الحق والعدل، ومن
الخطأ الفاحش أن يحكم على الإسلام بالمسلمين. فقد يكون الدين صحيحاً، ومعتنقوه خارجين عليه، منحرفين عنه، فيكون الخطأ خطأ أصحابه لا خطأ هو، بل أحياناً يكون الدين فاسداً في جوهره وتعاليمه، ويرتقي معتنقوه، فتصدر عنهم أعماله فاضلة، لا تمت إلى دينهم الأصيل بسبب، وإنما هم الذين حوروا
دينهم، وصاغوه صياغة خيراً مما كانت عليه- والحق أن الفرق كبير بين الإسلام نفسه، وعمل المسلمين
في مختلف العصور، وأكاد أجزم بأن الإسلام لم يحىَ حياة عملية صحيحة طبق مبادئه إلا
عصراً قصيراً جداً، وهو عصر الرسالة وما بعدها بقليل، وأما ما عدا هذه الفترة، فقد عاش
المسلمون عيشة منحرفة عن الدين، وإن اختلف هذا الانحراف قلة وكثرة أو شدة وضعفاً.
         لننظر قليلاً في أهم عنصر من عناصر الإسلام، وهو التوحيد الذي تبلور في قولنا « لا إله إلا الله » فهل سار المسلمون عملياً واقتصادياً على هذا المبدأ، وإلى أي حد؟ - إن هذا المبدأ يدعو إلى اعتقاد أنه لا يصح تأليه غير الله، وعبادة غير الله، أما من عداه من الناس فسواسية لا إله ولا مألوه، قد يختلفون في النسب، وقد يختلفون في الثروة، وقد يختلفون في غير ذلك، ولكنهم كلهم أخوة فيما بينهم، وعبيد لله وحده.
         ولكن هذه العقيدة تاليه أحد من الناس، تحتاج إلى جهد جهيد في تطبيقها في الحياة
العملية، إنها تحتاج إلى رياضة قوية، تحتاج إلى أن يحتفظ الضعفاء بإيمانهم، فلا يركعوا للأقوياء،
وتحتاج إلى أن يلجم الأقوياء غرائزهم، فلا يحالوا السيطرة على الضعفاء، وهذا مطلب ليس باليسير،
وإن كان هو جوهر الإسلام.
 ومن أجل هذا كان أسرع الناس إلى الإسلام أكثرهم من الضعفاء، لا من أصحاب السيطرة،
كبلالٍ وأمثاله، لأنهم وجدوا في الإسلام تحرراً من عبوديتهم لغير الله، وكان أكبر المعاندين أصحاب
السيطرة والتأليه من مثل صناديد قريش، فلم يسلموا إلا خيراً، وبعد عناد طويل، كأبي سفيان بن حرب
في مكة، أو إسلاماً ظاهراً بعد أن سدت الأبواب في وجوههم، كعبد الله بن أبي في المدينة، وأكبر
سبب في تأخرهم، أنهم رأوا يفقدهم تألههم وعظمتهم وروبيتهم.
 ولما فتح المسلمون فارس والروم، كان أغرب ما استرعى أنظارهم، عبادة الرعية لسادتهم،
لما وقر في نفوسهم بسبب الإسلام من أنه لا معبـود إلا الله.
 والقرآن مملوء بلعن الذين اتخذوا سيادتهم أرباباً، أو خلعوا القدسية والربوبية على
رؤسائهم الدينيين. وكانت دعوة الإسلام دائماً دعوة إلى عبادة الله وحده وعدم الاعتراف بربوبية احد
غيره «يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد الله ولا نشرك به ولا يتخذ بعضنا
بعضاً أرباباً من دون الله ».
 ولذلك حارب الإسلام الاعتزاز بالنسب، والاعتزاز بالجاه، والاعتزاز بالمال، لأن كل ذلك من ضروب التأله، والإسلام عدو كل تأله.
 ولكن لم يستطع كثير من المسلمين أن يحتفظوا بهذا المبدأ الجليل القويم، وظهر التراجع
من أول عهد معاوية أو قبله أحياناً، فعاد الاعتزاز بالحسب والنسب، وأصبح ملك معاوية- كما عبر كثير
من المسلمين- ملكاً عضوداً فيه اعتسافاً وفيه تأله وخاص من أهل بيته،وعادت الفروق بين الطبقات
قريباً مما كانت في الجاهلية، وتتابع الأمر على هذه الحال، وكلما تقدم الزمن نمت غريزة التأله، كما كان
في العصر العباسي وبعده؛ وبلغ ذلك التأله أوجه في مثل جنكيز خان وتيمور لنك وأشباههما.
أن نظرة الإسلام إلى الأولوهية ، والدعوة على إله واحد يتساوى أمامه الناس جميعاً. تقضي على كل فكرة من شأنها وجود طبقة يكون لها الشفاعة أو الوساطة بين الله وخلقه، ولكن ما لبث المسلمون أن عادوا
إلى سيرتهم الجاهلية الأولى، فاتخذوا أصناف من الناس شفعاء يستشفعون بهم عند الله ويتقربون
بهم إلى  الله، متأثرين بالدينات القديمة، أما الإسلام نفسه فيدعوا إلى أنه لا حاجب بين أي عبد مهما
ضعف وبين الله. وقد عاب على النصارة واليهود اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم، أرباباً من دون الله.
         ولعل السبب في ذلك، أن هذه العقيدة الصحيحة، عقيدة الإيمان بالله وحده، والخضوع له
وحده، وعبادته وحده، تحتاج إلى رياضة شديدة في تصفية النفس من الشوائب، والنفوس القوية عادةً
تعشق التأله والاستعلاء، والنفوس الضعيفة سرعان ما تستسلم، وهذا مشاهد في كل أمة، وفي كل
جماعة وفي كل عصر، من عهد أن قال فرعون: « أنا ربكم الأعلى » ومن قبله ومن بعده.
         وهؤلاء الأقوياء يتخذون لتألههم أشكالاً وألواناً من المظاهر. فمنهم من يتأله بجنوده وبنوده،
وكثرة ماله ونحو ذلك. ومنهم كبار المستبدين في أممهم مثل نابليون، ومثل هلتر وستالين، ومنهم
كبار أصحاب رؤوس الأموال في كل امة، ونحو ذلك ، كلهم يتألهون، وكل الناس حولهم تألههم، وأن
لم يسمِّ الأولون أنفسهم آلهة وأن لم يسمِّ الآخرون أعمالهم عبادة، ولكن العبرة في الحقيقة لا بالأسماء. والإسلام يكره هذا التأله بجميع أشكاله وألوانه والمسلمون- مع الأسف في كل عصورهم ما
عدا الفترة الأولى لم يخل سلوكهم من تأله من جانب القوة، وعبادة وخضوع من جانب الضعف.
          هذه ناحية من نواحي التأله والعبودية، يصح أن نسميها ناحية سافرة، وهناك ناحية أخرى من التأله والعبودية محجبة ؛ ذلك أن هناك قوماً لم يكن لهم من قوة السلطان، وكثرة المال والجنود والعصبية، ما يمكنهم من الاستعلاء في الظاهر، فبحثوا عن وسائل للاستعلاء من طريق خفي، ولهؤلاء أمثلة كثير كالسحرة والمشعوذين والدجالين من رجال الدين الذين يدعون الاتصال بالغيب والاستمداد من السماء، وأن بينهم وبين الله نسباً، أو بينهم وبين الجن صلة، وأنهم يستطيعون أن يقربوا إلى الله ما يشاءون، ويحرموا من الجنة من يشاءون، أو أنهم يستطيعون أن يسيطروا على القوانين الطبيعة في هذا الكون بسحرهم وتعاويذهم وتعزيمهم وما على ذلك، كل ما هؤلاء وأمثالهم لما فقدوا السلطة الطاهرة والقوة الدنيوية، لجئوا بمكرهم وحيلهم إلى أدعاء سلطة خفية يستمدون منها سلطانهم، ويبسطونها على السذج والبله وكان من سوء الحظ وضعف العقل أن قبلت دعوتهم، وتألهوا هم الآخرون، وعبدهم أتباعهم، فكان في الدنيا مملكتان: مملكة السلطنة المادية، ومملكة السلطنة الغيبية، والناس موزعون في العبادة بين هؤلاء وهؤلاء، وكل هذا حرب على الإسلام في جوهر تعاليمه وهو الذي ينادي دائماً، ويجعل شعاره دائماً، أن لا إله إلا الله، وأن كل تأله باطل وأن كل عبادة لغير الله باطلة، ولكن كم من المسلمين في العصور المختلفة استطاعوا أن يحتفظوا بهذه الوحدانية خالصة لم يشبها شيء من عبادة وتأله.
 ومن الأسف انه في كثير من عصور تاريخ المسلمين، تعاونت القوتان، الظاهرة والباطنة،
والمادية والغيبية، على إفساد حال المسلمين، فتحالف الملوك الظلمة والسلاطين الغاشمة مع الدجالين
من رجال الدين، والدجالين من المتصوفين، واعملوا في إفساد عقيدة الوحدانية، وفي تعديد الآلهة
وعبادتها، واتخذوا لذلك وسائل لا تحصى، فالسلاطين الغاشمة تحيط مظاهرها بكل أنواع الجبروت والطغيان، ورجال الدين تضع لهم من الأحاديث مثل « السلطان ظل الله في أرضه » والخطباء
والوعاظ يسرفون الناس على المطالبة بحقوقهم بإفهامهم أن الفقر من الله والغنى من الله، وليس
للجد ولا للعمل غي دخل في الغنى والفقر، وأن ظلم الظالمين إنما هو انتقام من الله لسوء سيرة
المسلمين، ونحو ذلك من تعاليم تفسد الروح، وتذل النفس، وتمكن المتألهين من التأله، وتوجه
الأذلة إلى عبادة المتأله، ولم يكن هذا من جوهر الإسلام في قليل، ولا كثير .
          ولو نحن نظرنا نظرة شاملة، لرأينا أن أكثر شرور العالم في الشرق والغرب، وفساد حال الأمم يرجع على هذا التأله من جانب، والعبادة والضعف من جانب آخر. فالعلاقات بين الأمم والحروب المتتابعة إنما يبعثها في الغالب حب الاستعلاء أو بعبارة أخرى التأله ومحاولة الدولة القوية أن تسيطر على
العالم لتكون آلهته، وليكون غيرها عبادة أذلة، وكان كل هذا يزول لو اعتنق الجميع إن لا آله إلا الله.

 وبعد فهذا أصل من أصول الإسلام، رأينا كيف انحرف المسلمون عنه، فساء حالهم، وانحط شأنهم. ولعلنا نتبع ذلك ببيان بعض الأصول الإسلامية الأخرى، ونبين كيف عطلت وأهملت، والله موفق.

- رسالة الإسلام:
ترحب المجلة بما وعد به الأستاذ الكبير من بحوث في هذا الصدد، فأن أمر المسلمين
لا يصلح إلا إذا فهموا دينهم حق الفهم، وكانوا على بصيرة من أصوله وقواعده وما كلفهم الله إياه.
         وقد اشتبه على كثير من المسلمين في هذا العصر أمر الدين وحسبوه بعيداً عن معترف الحياة العملية، قاصراً عن الأخذ بأيدي أهله إلى الصراة السوا في السياسة والحكم والاقتصاد والقوة وسائر ما تصلح عليه الأمم، ولذلك نراهم ينادون بالفصل بين الدين والدولة، ويعتبرون هذا الفصل أساس من أسس الإصلاح، ويزعمونه أمراً مقرراً مسلماً به عند أهل لتفكير التقدمي الحديث لا ينازع فيه إلا الذين يفكرون بعقول قديمة « رجعية » ولا شك أن الجهل بالإسلام، والنظر إلى حالة المسلمين في ضعفهم وتأخرهم، والرغبة في تقليد المبادئ الغربية في نظم الحكم والسياسة، هي السر في ذلك الاشتباه وهذا التهجم.
        فهكذا تظافرت قوى المفكرين المخلصين من أهل العلم والأدب، وذوي الأقلام السيالة من أمثال الأستاذ الكبير أحمد أمين بك - على بيان أصول الإسلام، ومقارنتها بما يفعله المسلمون، فأن القضية تتغير يومئذ، فلا تكون دعوى إلى هجر الإسلام، ولكن دعوى إلى هجر ما عليه المسلمون مما ينافى الإسلام.

                                                                                               أحمـد أميـن

من مختارات الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...