أنسي الحاج: أئمّة

01-11-2008

أنسي الحاج: أئمّة

■ بين الصواعق والناس

لم يَقْهَر أحد من هؤلاء الحكّام والسياسيين نفسه إلاّ في موضع الكرامة، ولا مرّة في مواضع الضِّعَة والأنانية والضحالة والرياء. يقهرون أصالتهم أو ما تبقّى منها، صدقهم أو ما شابه، وطنيّتهم، عفويّتهم، شجاعتهم، صوت أجدادهم. وطبعاً يجهلون نداءات المستقبل فلا لزوم لأن يقهروها.
يجب أن يكون الجالسون في السلطات كالواقفين موانع بين الصواعق والناس، تَنْهَد إليهم النفوس كأنّهم أولياء، كَهَنَة الهيكل، حاملو الأعباء والمؤتمنون على أسرار تتجاوزنا ويفرحنا أنهم حاملوها.
عندما ينام اللامسؤول يجب أن يشعر بأن المسؤول يقود سفينة نومه، وأن هذا يكفي لطمأنينته. هكذا يكون شعبٌ لا مجموعةُ تائهين وهائجين. وهكذا يصبح التعاقد بين منتجين منصرفين إلى إنتاجهم أو كسالى إلى كسلهم، وطبقة راعية تتحمّل المسؤوليّات وتَضْمن أجواء العيش الملائمة. لا غنى للسلطة عن إشعاع فوق المألوف، فهذه طبيعةٌ سواء في المقدّس أو في الوثني. وكلاهما مقدّس وكلاهما وثني.

■ أئمّة

الأفكار كالفوانيس، تتفاوت درجة أنوارها بحسب الطاقة والحجم. الفانوس الصغير الفتيل والقليل الزيت شحيح الضوء كما هو الخافض الذهن شحيح الفكر. المساء والصباح موجودان في الرأس البشري أيضاً. الشمس في شتّى حالاتها. وفي غيابها أو انحجابها الموقّت. هناك وجوه تضيء المساحة كما يملأ الأسد البريّة. لا تفسير لذلك غير الحضور. الإشعاع نعمة. قد لا يكون الخفوت لعنة بل رحمة، لكن الإشعاع نعمة. وجوه ترفل بالأنوار وكلّما أشرقتْ تراكمت ظلالُها. وإذا توافرت لها أصوات عميقة صادرة عن كهوف وعابرة للأعمار وحاملة للفصول يغدو أصحابها سَحَرَة. سحْر أئمّةٍ يَعِدُ وجودُهم الحياةَ بجوائز لم تحلم بها.

■ الرأس واللسان

يُنْصَح للكاتب بالتجرّد توخّياً للموضوعيّة. لا معنى لهذا الإرشاد. هناك كاتب مخلوق بمسافاته من الأشياء وآخر يَغْطس غَطْساً. الذي رأسُهُ يسبق لسانه والذي لسانه يسبق رأسه. الأول قاضٍ وأدبه مثل كلام القضاة، قد يقتل وقد يُبرّئ لكنّه لا يُحمّم الروح كالشلاّل. الثاني يَخْلَع الأبواب ويشقّ الطرق. أمّا شرطه فليس أن يكون جارفاً فهو جارف، بل أن لا تجرفه حيويّته بصخبها النافد الصبر جرفاً سطحيّاً. وهنا أيضاً لا يُشترط على العفوي الهاجم: فإمّا أن تكون حممه عميقة أو لا تكون. قد يُخفف التأنّي بعض النَّزَق، لكن خطر التأنّي هو قَتْل العفويّة. الخلاصة: يكون أو لا يكون. وقد تصحّ معادلة «يُصبح أو لا يصبح» عند أولئك الذين يمرّون بتحوّلات مصيريّة.

■ لا طوبى

ما أنت بغير كتل صمّاء تدور ولا تعرف أنها تدور وتُخيف ولا تدري من تأثيرها شيئاً.
المُعرَّض المكشوف الصدر معرَّضٌ بسبب خياله لا لأن قاتله جلاّد بل لأن الجلاّد لا يعرف أنه قاتل.
ولا يُظَنُّ أنه عزاء، هذا الفرق الفاجع، فإنما هو أمعان في الرعب.
لا «طوبى للذين يُعزَّون» فلا يُعزّى، لا «طوبى للذين يُعزَّون» بل للذين يستعيدون الحقبة السابقة للحياة والموت، يوم كان الإنسان، قبل المسيح بعصور، يمشي على الماء دون أن يخطر له الغرق فلا يغرق، ويتزحلق من قارة إلى قارة مع الهواء ويؤوب مع المساء ولا يبقى في ذاكرته غير قوس مشدودة إلى أكثر.
ليت الإنسان يُحمى من مشاهدة اللانهاية مثلما يُحمى من رؤية العدم. كيف يُستطاع اجتياز النفق دون اختناق، ولو كان بَعْدَه النور؟ ليس بعزاء أننا نعرف، بل هو الإكراه نزيّن لأنفسنا أنّه بطولة.

■ ثم تأتي الحوادث

اضحكْ تضحكْ لك وجوهك. المكان هو لمَن لا يشعر بأنّ له أو ليس له مكان. أولئك أنتم، أصحاب البيوت. ماذا تَقَدَّم، ماذا تأخّر؟ اسأل بالأحرى ماذا استطعت أن تقول، ماذا مشيت. وخسائرك ليست أرباحاً لسواك.
عند النهاية، وما زلنا نعيد البداية. الحريّة هي أن لا يُمسكك أحد. حريّة مسمومة بمراقبة ذاتها. ما هذا. (كتبتُ ما هذا بلا علامة استفهام فوضعتْ لي الآلة علامة استفهام. بلا علامة استفهام لأنه ليس استفهاماً. هو تبهيت. العلامات (تعجّب، ثلاث نقاط، استفهام) كانت للأيام الخوالي عندما كانت الكتابة تطفح بالمراهقة، بحواجب المراهقة، بالغَصَص والتيه. مجاعات تَنْغل وتتخابط في العروق. ما هذا. ما إن تغادر المراهقة حتّى تصبح مديراً عامّاً. تعطي الشحّاذين وتُقامر. ما إن، حتّى. تصير وجيهاً وسخيفاً. تُنكّل بالأغبياء. أديّوسْ مراهَقة، جاء دور عمرٍ مملٍّ ومجهول، مجهول ومعلوم، لا شيخوخة ولا طفولة، صمود. ما هذا. موتٌ في الصمود. أديّوسْ أيّها الموت أيضاً، كان الأمل بك. تُراكَ بدورك خيبة.

تلك التأوّهات كم كانت مضحكة.
العيون تعكس خطأ، تلقي على البشاعات أرديةً رومنتيكيّة. الأبخرة. تأوّهات الأعضاء. ما هذا. يجب أن يكون من المهد إلى اللحد فوراً إذا تبيّن أن الأخ سيملأ الدنيا هباء. تُعطى الحياة لمَن؟ يجب أن تُعطى لمَن يزيدها نظافة ويفوقها جمالاً. يذهب وتبقى بعده أحلى ممّا كانت. كم واحداً يستطيع أن يحقّق هذا للحياة؟ لو تكاثروا عليها لوصل الإنسان إلى وقت لا يعود فيه يغادر. من فرط النظافة والجمال. ولا يعود يأتي أيّ كان. تتغربل وحدها. عنصريّة، لا مفرّ.
تصبح قوّة الحياة من الضغط بحيث لا يمكن الإفلات منها. لا يعود لسؤال ماذا وراء الموت معنى، لأنه يصبح ما قبل الموت هو حياة لا تنتهي بقصْر نَفَس الحياة ولا بعطْل صحّي أو قضاء وقَدَر. يصبح فخّ الحياة كأن تقول فخّ السعادة. لا يعود يُسمح بمغادرته إلاّ للحَسَك. ما هذا. هذيان الصبح. شَيْب الشِّعر. ولماذا الشِّعر. مثله مثل الحبّ، حقّ يُراد به باطل. لا حقَّ ولا باطل. الجلوس في رأس الجبل لتمزيق العاصفة. أعلى من الجبين، والغيم تحت الأقدام. جَعْلَكة العاصفة وهي تتكوَّن أمام العين. شرْبُ الرعد مع القهوة. أعلى من الماعز، ثائر الأرض. فوق الكلمة. في البدء كان الجبين فوق الكلمة.
يستهلُّ المتكهّن سكّته بالتنبّؤ، وعلى نفسه أيضاً يدعو، وإيّاها يُخضع للاستحقاقات. حين يحين الحين، على العرّاف أن يخلع قبّعته أمام جبينه في المرآة ويشكر ويهنّئ كأنّه ليس هو المحكوم. لاعب الغيب، إذا دخل النادي المخيف، يحسب نفسه قد نجا وأصبح من أهل الرَّجْم وأنّه لن يكون من المرجومين.
ثم تأتي الحوادث عليه.

أنسي الحاج

المصدر: الأخبار

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...