أسباب اضطراب أسواق النقد

25-02-2011

أسباب اضطراب أسواق النقد

لا تزال أسواق النقد الأساسية غير مستقرة، إذ يواجه اليورو ضغوطاً وتحديات نتيجة للمشاكل الهيكلية التي تواجه اقتصادات عدد من البلدان الأوروبية. فهذه العملة انكشفت أمام معضلات الديون الحكومية، أو السيادية، في اليونان وإرلندا وإسبانيا والبرتغال، وربما إيطاليا، ونتج عن ذلك تراجع في سعر صرفها أمام الدولار والين والفرنك السويسري.

لا شك في أن الشروط التي على أساسها اعتُمد اليورو في منظومة الاتحاد الأوروبي، لم تُحترم في شكل دقيق. ومن أهم هذه الشروط ما يتعلق بخفض الإنفاق الحكومي وعدم تجاوز العجز في الموازنة في أي بلد من البلدان المنضوية في الاتحاد النقدي الأوروبي أكثر من ثلاثة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. بيد أن بلداناً أوروبية لم تتمكن من ضبط آليات الإنفاق، فبلغ العجز مستويات مرتفعة قياساً إلى الناتج المحلي الإجمالي، مثل 13 في المئة في اليونان وتسعة في المئة في إرلندا.

وهكذا تحملت البلدان الأوروبية المعنية ديوناً مهمة استدعت قيام منظومة الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي بتأمين الأموال اللازمة لتعويم الحكومات وتمكينها من مواجهة التزامات التسديد القريبة الأجل. وانكشفت هذه الأوضاع الصعبة في ظل تداعيات أزمة المال العالمية وتراجع الأداء الاقتصادي وانخفاض الطلب على السلع والخدمات بما أضعف حصيلة الصادرات لعدد من البلدان الأوروبية. ودفعت هذه المشاكل كلها إلى الضغط على سعر صرف اليورو في مختلف أسواق النقد في العالم.

وظلّت الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي، من جهة أخرى، تمارس ضغوطاً سياسية واقتصادية على الصين، وهي من أهم البلدان المصدرة للسلع في العالم حالياً، لإعادة تقويم سعر صرف عملتها الوطنية اليوان. إلا أن الصين ظلت تعاند وترفض، خشية من التأثير في قدرتها التنافسية في أسواق التصدير. وغني عن البيان أن الصين جنت أموالاً مهمة وبنت فوائض ضخمة من تجارتها مع الولايات المتحدة والبلدان الصناعية الرئيسة الأخرى بفعل فوائض الميزان التجاري، لكنها وظفت الأموال في أدوات استثمار دولارية في شكل أساسي، ما عزز الطلب على الدولار ومكّن الولايات المتحدة من تمويل العجز في ميزان المدفوعات وعجز الموازنة الفيديرالية.

لا ريب في أن عائدات التوظيفات الصينية في الأدوات الدولارية، مثل سندات الخزينة أو أذون الخزينة، ليست مغرية عند الأخذ في الحسبان معدلات الفوائد التي تُدفع عليها، لكن في مقابل ذلك لن تتمكن الصين من تأمين قنوات استثمارية أخرى مفيدة. وهناك من يقول إن الصين كان يجب أن توظف الأموال في عملية تنمية شاملة في داخلها لرفع مستويات المعيشة وتعزيز القدرات الاستهلاكية لدى مواطنيها، إلا أن هناك محاذير من إنفاق رأسمالي كهذا، أهمها الخشية من ارتفاع معدلات التضخم. وعلى رغم ذلك، تواجه الصين حالياً مستويات تضخم مرتفعة، خصوصاً ارتفاع أسعار المواد الغذائية، ما يدفعها إلى إعادة النظر في السياسات النقدية والعمل على رفع أسعار الفوائد المصرفية للحد من الإنفاق وتدفق السيولة. وربما تؤدي هذه السياسة النقدية إلى ارتفاع في سعر صرف اليوان خلال الأشهر المقبلة.

منذ القرارات التي اتُّخذت في عهد الرئيس الأميركي الراحل ريتشارد نيكسون عام 1962، وقضت بالتحرر من نظام ربط سعر صرف الدولار بالذهب وطبع الولايات المتحدة كميات كبيرة من الدولارات من دون غطاء حقيقي، تواجه سوق النقد اختلالات. لكن الدولار لا يزال العملة الرئيسة في عمليات التسويات الدولية والعملة التي تُجرى على أساسها عمليات بيع النفط، الذي يشكل مكوناً مهماً في التجارة الدولية. كذلك يعمد كثير من البلدان التي لا تتمتع باستقرار نقدي، إلى استخدام الدولار كأداة للتعامل في أسواقها المحلية، خصوصاً تلك البلدان التي تعاني من تضخم مفرط وتراجع مستمر في أسعار صرف عملاتها الوطنية. وتؤكد هذه الأمور، أن الاستقرار في أسواق النقد يجب أن يقترن باستقرار مالي واقتصادي وتناغم بين السياسات الاقتصادية في البلدان المتقدمة.

ربما تغيرت أوضاع اقتصادية في كثير من البلدان الصناعية والنامية وبرزت اقتصادات جديدة فرضت إمكاناتها ومشاكلها على المشهد الاقتصادي العالمي. لكن هل يمكن أن نغفل التطورات الجارية في بلدان شرق آسيا وتنامي اقتصاداتها، كالصين، التي أصبحت ثاني اقتصاد من حيث الناتج المحلي الإجمالي بعد الولايات المتحدة؟ أو هل يمكن أن نهمش دور البرازيل كقوة اقتصادية ذات قاعدة صناعية مهمة وفاعلة في اقتصادات التصدير؟ فالبرازيل تُعَد الآن قوة اقتصادية مهمة في أميركا اللاتينية، وتدفقت عليها أموال مهمة بعضها للاستثمار وبعضها للمضاربة وتحقيق أرباح سريعة، ما دفع سعر صرف عملتها إلى الارتفاع في مقابل الدولار واليورو.

وهل يمكن التوافق بين البلدان والتجاوز على المصالح الوطنية وتقريب وجهات نظر صناع السياسات الاقتصادية؟ لا تبدو الأمور وردية، ونحن نرى التوافق بين الصين وشركائها التجاريين صعباً. كذلك لا بد لتطورات أزمة الديون الأوروبية وعدم حسمها في شكل واضح حتى الآن، أن تكون لها انعكاسات غير مريحة على استقرار سعر صرف اليورو. ويضاف إلى ذلك أن تداعيات أزمة المال العالمية زادت هموم صناع السياسات النقدية والمسؤولين في المصارف المركزية الرئيسة تمثلت في ضرورة حماية النظام المصرفي وتأمين الدعم لوحداته التي تعاني من انكشافات غير مسبوقة.

كل ذلك يعني أن تحقيق التناغم المنشود بين البلدان يجب أن يتجاوز المشاكل المحلية، أو الوطنية، وربما لن يكون ذلك متاحاً إلا بعد مرور عدد من السنوات، ولذلك سيظل الاضطراب في أسواق النقد مستمراً. وأياً يكن من أمر، تحاول مجموعة العشرين أن تعثر على معالجات مفيدة في ظل هذه التحديات الصعبة، لكن هل تتوصل إلى سيناريو للاستقرار يقابل في قيمته التاريخية اتفاقات بريتون وودز؟


عامر ذياب التميمي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...