أدونيس في مضافة البحر الميت

13-12-2007

أدونيس في مضافة البحر الميت

- 1 –

صباحاً،

قبل أن أقرأ أية جريدة من جرائد عمّان الصباحية، وقبل أن أمضي، برفقة صديقي حيدر وإيمان، الى زيارة البحر الميت، أخذتُ وردة وقبّلتُها:

لم يكن للوردة شفتان.

كان لها عنقٌ ينحني على طفلٍ، قُتِل صباحاً

في الجهة الثانية من هذا البحر.

- 2 –

صديقي الذي لم أره منذ خمسين عاماً، والتقيتُه في عمّان، قال لي في أثناء حديثنا كلاماً غامِضاً يمكن أن أترجمه كما يلي:

سوف ترى خوذاً تجلس على رؤوس الشجر،

سوف ترى أمجاداً وحصوناً ليست إلا كلمات في

قواميس الريح،

سوف ترى كيف يصيرُ الدمُ اسماً لآدم.

- 3 –

خيطٌ أوهَنُ من بيتِ عنكبوتٍ

يُؤَرجِحُ رأس الواقع.

- 4 –

تَسيرُ القَهْقَرى – فيما يُخيَّلُ إليكَ

أنّك تَسيرُ الى الأمام.

- 5 –

رائحةُ عشبٍ برّيٍ

تحمله نِياقٌ نحيلةٌ، وحُبْلى.

- 6 –

تِلالٌ – جِمَالٌ سوداء.

- 7 –

ماذا مضى منكَ، أيّها الماضي؟

ما هذه الغُرف العالية على ضِفافكَ؟

ما هذه السلالِمُ التي تقطر دماً؟

ومَنْ أولئك الذين لا يتوقفون عن الحركة – صُعداً، هُبوطاً؟

- 8 –

أحياءُ يعجنون الموتى ويخبزونهم.

- 9 –

أيتها الطريق، أقول عنكِ شيئاً، أقول أشياء.

لكن، وشوِشي من يعبرون عليكٍ

أن يفهموا شيئاً آخر.

- 10 –

زمنٌ – ضيفٌ على الغُبار.

- 11 –

في الطريق الى البحر الميت

سمعتُ كل شيءٍ يقول:

كلاّ، لم أعد أريد مجداً،

لم أعد أريد تاريخاً.

أريد أن أحيا.

- 12 –

غيّر طريقَك، غيّر موضعكَ

ستجد نفسك دائماً

كأنَّك تطوفُ بين جدرانِ شمسٍ سوداء.

- 13 –

الهواءُ نفسه جدارٌ، ولا ثُقبَ فيه.

- 14 –

تبكي الأشجارُ والنباتاتُ

ويضحك الوقت.

- 15 –

ارقصي، أيتها الشمس، ما شئتِ

في غاباتِ الحجر الأسود،

لكن، أرجوكِ أن تهزّي إليكِ

بِجُذوعِ أحزاني –

بين ذراعيَّ يئِنُّ جسَدُ الأرض،

في رأسي تتموّجُ الكارثة.

- 16 –

كلا، - لا صَمتُ الحياة هو الذي يقول الحقيقة،

بل صمتُ الموت. وحدَهُ.

- 17 –

في ما لا يُمكن فهمه

أجدُ غالباً المادة اللازمة

التي تُساعدني على الفَهْم.

- 18 –

حسناً. غَيِّري علاقتي بالموتِ، أيتها الحياة،

لكن، خذيني أولاً بين ذراعيكِ.

- 19 –

وضعنا أسلافنا حيث يتعذَّر النُّطقُ إلاّ بالحق،

هكذا نعيش رازحينَ تحت ثِقَلِ أخطائهم

في ظلامٍ شامل.

- 20 –

أيتها البلاد التي أنتمي إليها،

قلتُ مرة عنكِ:

أنتِ البلاد الوحيدةُ التي لا أعرفها،

ولم أُخطئ.

- 21 –

هنا، هنالك،

لا ثقافة إلا ثقافَةُ الأَثَر.

- 22 –

الكلماتُ التي تتحدّث عن الألوهة،

تعيشُ في رعب دائم.

مهما صرخَ عالياً، فلن يسمعه أحد:

هيمنَ صراخه عليه،

ولم يعد يعرف أن يتكلَّم.

- 23 –

لم يحدث مرّةً أن اتّفقتُ مع ظلّي

كمثل ما اتفقنا

في زيارة البحر الميت.

- 24 –

دخلتُ في طقس البحر الميت

حاملاً أسئلتي

وخرجتُ حاملاً جراحي.

- 25 –

نستطيع أن نقشرَ المعنى كما نقشر البصلة،

لكن، كيف نستطيع أن نقشرَ الكلمات؟

- 26 –

من زمنٍ،

يبحث اليبابُ عن قارئ أخضر.

- 27 –

طيورٌ من الورق،

وأخرى بلاستيكية،

تتطايَرُ في رعاية الشمس.

- 28 –

الماء يلبس قميصاً من النار.

- 29 –

هنا، في البحر الميت،

تسبح الشمس كل يوم

بخُفّها الأحمر، بثيابها الحُمرِ كلها،

وبالقلنسوة الحمراء ذاتها، تلك التي تُغطي شعرها

منذ بدء الخليقة.

- 30 –

أسجْد، أيها القمر،

لهذا الفَلَكِ الذي ينطمِسُ فيه المعنى.

- 13 –

أمامَ كل زهرةٍ كمين.

- 32 –

هنا، تسكنُ الذاكرة العربية في بيتٍ من الملح.

- 33 –

بقلم رصاصٍ

ترسم يدُ الهواء ورداً أسود

على جسد البحر الميت.

- 34 –

النَّعشُ دائرٌ

وفي يد السماء مسمارُ الموت.

- 35 –

شُبّاكٌ لبيع تذاكر السفر

الى ما بعد التاريخ.

- 36 –

نكادُ أن نُحوّل العلاقة بتراثنا الى نوعٍ من الفضول: لا يُثير فينا إلا رغبة سياحية: رغبة القيام برحلةٍ الى الماضي.

- 37 –

كان باسكال يصف ديكارت قائلاً: «إنه مُريبٌ ولا جدوى منه.

وكان روسو يقول عن فولتير، وديدرو، وهيوم، إنهم «فاسدون، دَسّاسون».

وكان نيتشه يصف الفيلسوف بأنه «سيّد المجرمين».

وكان فيتجنشتاين يقول عن الميتافيزيقا إنها «هُراءٌ محض».

وكان دولوز يقول (في رسالةٍ الى صديقه آلان باديو): «لا أحتاجُ الى فكرة الحقيقة».

هذه بعضُ الأقوالٍ التي استعدتُها في طريق العودة من البحر الميت الى عمّان...


الخيمة

ذكَّرتني زيارة البحر الميت بخيمة الجماهيرية الليبية العظمى التي أمرَ بنَصبها في حديقة أوتيل مارينيي في باريس، حيث يقيم ضيوف فرنسا، مُرشدُ الجماهيرية الليبية وقائد ثورتها.

إن كانت هذه الخيمة توكيداً على التمسّك بتقليدٍ عريق، فمن حقّ هذا التقليد أن يسأل القائد المرشد:

لماذا لا تنصب هذه الخيمة في كل بلدة وكل قرية في ليبيا، لكي يُصغي القائد المرشد الى شعبه – في ما يقلقه، وفي ما يطمئنه؟

ومن حق هذا التقليد أن يسأل أيضاً:

لماذا لا تُنصَبُ هذه الخيمة للفقراء والأميين العرب والعاطلين عن العمل، والمضطهدين، المنبوذين، المهمشين؟

ومن حق هذا التقليد أيضاً أن يسأل:

لماذا إذاً لا يسافر القائد الرشيد بالطرق التي كان يسافر بها أصحاب هذا التقليد، احتراماً لهم وتيمناً بهم – في قافلة من الجِمال، أو من السفن؟

ولماذا إذاً هذا الحشد المرافق الهائل: مئتان، أو ثلاثمئة، أو اربعمئة شخص، وأربع أو خمس طائرات خاصة لكي تحملهم وتنقل أمتعتهم؟

لماذا إذاً لا يستقبل أعضاء الجمعية التشريعية الفرنسية في هذه الخيمة، بدلاً من الذهاب إليهم؟

ولماذا يذهب الى فندق ريتز لمقابلة شخصيات ثقافية، وشخصيات نسائية بارزة؟ أليست الخيمة أَولى بهؤلاء من هذا الفندق؟

مسكينةٌ هذه الخيمة، وما أشقى ذلك الرَّمْزَ الذي يُسنَد إليها.

بلى، أسمع الخيمة نفسها تَغضبُ وتحتجُ،

بلى، ألمح الخيمة نفسها تبكي.

أدونيس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...