أدونيس: أمل يفتقرُ هو نفسه الى الأمل

09-10-2008

أدونيس: أمل يفتقرُ هو نفسه الى الأمل

I - صَنّارة الأحد

31 آب ، الأحد، مقهى حسان،

بيروت 2008)

تتدلى السمكة الصغيرة من كماشةٍ هي رأسُ الصّنّارة. كانت تتوهّج كمثل صفيحةٍ معدنيةٍ أضفت عليها شمس ذلك النهار بياضاً يمكنُ أن يُوصف بأنّه حادٌّ وغريبٌ. الصنارة قوسٌ ليّنة تتحرّك بين يدي الموج. ذراعها طويلة، غيرَ ان المدى قصير، فوق الصخر لا في الأعماق. صيادٌ شيخٌ على حرفِ الشاطئ الصخريّ، غير أنه ينهضُ كأنه ألفٌ في أبجدية الموج، صياد أسماكٍ فقيرةٍ، غالباً، تختبئ وراء ذلك الثوب الأخضر القاتم الذي تنسجُه إبرُ الطّحالب.

وضع السمكة في جُعبته. هيأَ من جديدٍ صنارته، مفخِّخاً شفتيها، وألقاها في الموج. انتظر. هزّ رأسَه. فجأةً، أدار ظهره الى بساط الزبد، ودخل تحت خيمة المقهى.

صيّادٌ آخر يحلّ محلَّه. يقف حافِياً على الصَّخر.

ترفّق بهِ أيها الموج.

امرأةٌ في المقهى تنظرُ اليه فيما تدخّن. للنارجيلة ثديٌ تضعه بين شفتيها حالمةً. أكادُ أن ألمسَ حلمَها بيديّ. أكادُ أن أرى في عينيها سريراً.

ترفّق بها، أنتَ كذلك، أيّها الحلم.

* * *

مِن أينَ، إذاً، يجيئ الأمل بالصيّد إلا من فخذَي موجةٍ أو من ثقبٍ في كبدِ الشاطئ؟

* * *

الأمواج مُخملٌ مُنقَّطٌ بفُقاعاتِ زبدٍ لا يعلّم اليأس، لكنّه لا يعلم الأمل. زبدٌ يلذُّ له، كما يبدو، ألا يقول، في بيته الفسيح، إلا عُريهُ. صرخةُ نورسٍ، صرخةٌ واحدةٌ تكفي لكي تنفتح أبوابه.

كلما تقدمت موجةٌ في شكل عربةٍ تدفعها يدان من زبدٍ، يتقدم حظَّ الصَّنَّارة. ومع أنّ للشمس الآن، في هذه اللحظة، عينين مُغمضتين، فإنَّ لها قارِباً من الضوء يلتطِمُ بالشاطئ، وعبثاً يعمل الصّخر على تحطيمه.

* * *

فضاءٌ – كأنّه هو الآخر، خاضِعٌ لرقابة السماء. ويبدو أن الماءَ المُطَحلبَ الأَغبر، أخذ هو أيضاً يُراقب أسماكه.

دقائقُ تمرُّ كأنها تتسلَّق سلالِمَ الموج، ثم تهبطُ لكي تنامَ في فراشِ الزَّبد.

* * *

تتوحَّد المجاذيف الآن في واحدٍ هو الذي تُمسك به يدُ الشّمس. الفضاء كلّه وَجهٌ: خَدّهُ الأيسرُ عُريٌ، والأيمنُ ظِلٌ مُرقطٌ بِرذَاذِ الموج، الذي يرسمُ هذا العَري. اللّوحة زرقاء، ولا تنتهي الزُّرقة مِن قيادةِ أحلامها في قوارب غير مرئية.

يتقدم الفضاء كمثلِ جسدٍ يُنزّه شهواتهِ في غابة الموج.

ومَا هذه الخطواتُ التائهة على الضّفاف؟ ولماذا أشعرُ كأنني أسمع نداءً يخرجُ من شفتي لا أحد؟ حتّى الحرارة العالية في هذا النداء تبدو كأنّها صوتٌ صديق.

* * *

بحرٌ – مستودعٌ لِلتّواريخ. وأنتم أيّها البشر الذين يتقاسمون الموتَ، سَفراً وغَرَقاً، لماذا لا تتقاسمون الحياة، فَرحاً وحبّاً.

هل الأمل عندكم هو نفسه فقيرٌ الى الأمل؟

* * *

هنا، في حركة هذا الموج، أطرافٌ، تناقضاتٌ، جدرانٌ، سقوفٌ، خيامٌ، سفنٌ، نوافذ، عتباتٌ، أنقاض سفرٍ وعودة.

ماذا يعني أن تحلم العتبةُ بالسّفر؟

ماذا يعني أن تحلم النّافذة بِالعودة؟

II – ذلك الأفقُ الذي لا مُلكَ له

- 1 –

لا مُلكَ

إلا لهذا الأفقِ الذي لا مُلكَ له.

- 2 –

الحياةُ جسّدٌ

يتقلَّبُ في فِراش الحلُم.

- 3 –

الحياةُ أمٌ لِطفلِ يظلّ طِفلاً هو الحب. هو في الوقتِ نفسهِ، بكرُها. وهو، بين أَبنائِها، الوحيدُ الذي يعرف كيف يرضع ثَدييهَا – لا بشفتيهِ وحدهما، بل بجسدهِ كلّه.

هل الفعلُ الجنسيُّ رضاعٌ آخر؟

بجسدكَ نفسه، يمكن أن تذهبَ الى ما وراءَ جسدك، وإلى أعلى.

- 4 –

الزّمنُ بطيئٌ، بطيئ.

السريع السّريع هو عَقرب السّاعة.

هكذا يضعُ الشّاعر وقته بين عقاربِ السّاعة، ويتركُ لجسدهِ أن يتفتح في أكمام الرّيح.

- 5 –

- «لم أركَ، منذ العشيّة، أمس»:

قالت له الياسمينةُ

وهي تَغبُّ الماء من شَفتي إبريقه.

- 6 –

ها هِي أخيراً، ريحُ هذا المساء،

تضع قيثارها بين يدَي شجرةٍ لا تُثمر.

لكن، ما أبرعَ أغصانَها

في التّسلّق على أَدراج الفضاء.

- 7 –

إذا كان العقلُ والقلبُ شَمسين، كما يقول بعضهم،

فكيف يكون أحدهما ظِلاًّ للآخر؟

- 8 –

هل الغبار فراغٌ أم هو امتلاء؟

أظنُّ انّ الرَيح نفسَها لا تَعرف أن تجيب.

- 9 –

نعم، أحبّ الوضوح،

لكن بوصفهِ غموضاً آخر،

III – فواصل

في اللّغة العربيّة كلماتٌ إذا قِيلت قربَ يمامةٍ تحوّلت الى ناقة. اطمئني، أيّتها النّاقة، من يقدر أن يُنوِّمَ غابةً في حضن عصفور؟

* * *

أكثرُ سوءاً من العدوّ، صديقٌ يقوم بأعمالٍ تُخجلك وتُحبّبُ اليك العدو نفسه.

* * *

- «التدخين في الهواء الطّلق ليس ممنوعاً. ثم إنني لستُ أنا من يُدخّن، بل الفضاء»: قلت للمرأة التي اعترضت على سيجاري في المقهى، في مالمو (السويد).

قالت:

- لا بأس، إن كان الأمرُ كما تقول. هل الأمر كما تقول؟

وماذا يمثل لك السيجار؟

- أحياناً الذكورة، وأحياناً الأنوثة.

* * *

كنتُ دائماً في طفولتي أتشوّق لكي أُمسِكَ بيد الرّيح الأولى التي تومئ إليّ، لعلّها تقودني الى ما كنت أبحث عنه. لا أزالُ أبحث عنه عِبرَ ريحٍ أومئ اليها أنا، وتُمسك هي بيدي.

أين أنتِ، أيّتها الرّيح؟

* * *

من المفارقات الكبرى التي تولّدها العولمة في البلدان العربية، الانفتاحُ على الأجنبيّ، أيّاً كان، والانغلاقُ على العربيّ، أيّاً كان.

مفارقة تضاف الى التّاريخ العربي الحديث المليء بالمفارقات من كل نوع.

أدونيس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...