المسكوت عنه «خارج التغطية»

20-11-2007

المسكوت عنه «خارج التغطية»

ندخل الى الحكاية مع حركة الكاميرا السريعة عبر شوارع دمشق وأمكنتها المتباينة، متابعين تسوّق عامر كميات مهولة من الأطعمة.

فنتعرف عبر كلامه في الموبايل على المرأتين، الأولى ندى زوجة صديقه زهير والثانية زوجته. الجميع حتى الأبناء يجهزون لحمل الزيارة لزهير السجين. عشر سنوات... والثلاثة.. عامر وزوجته وندى زوجة زهير يدوخون في دائرة لا فكاك منها ولا مخرج.. لربما هي أقسى من قضبان زهير. ‏

بعيداً عن حكم الوصاية الأخلاقية شاهدت الفيلم، فتابعت شريطاً سينمائياً تجرأ بالدخول الى حيوات هؤلاء الأبطال، دقائق متاعبهم، وتفاصيل بعض يومياتهم، ومعايشتهم لواقع غير طبيعي فرضه غياب زهير. عامر لم يتخلَ عن صديق عمره ورفيق فكره، وعمل ويعمل بأكثر من طاقة إنسان ليؤمن احتياجات ابنة وزوجة صديقه، لكن.. هناك شيء ما ولد بين أحضان مبدأي الاخلاص وعدم التخلي، هذا الشيء هو الحب الذي لا يستطيع أحد في العالم أن يفسره أو يفهم سبب حدوثه. حتى الطالب الياباني يجيب عامر عندما يسأله عن الحب.. عندنا مثل عندكم، الحب هو الحب. ‏

الثلاثة يشعرون بما يدور، الزوجة تحاول بكل الوسائل استعادة زوجها عامر عاطفياً. وندى زوجة زهير تطلب منه الرحيل.. لكن عندما يصبح هاتفه خارج التغطية تتّحد المرأتان لاستعادته،وتغفران له، وتعود الأمور لمجرياتها المربكة. 
 تميز الفيلم بأداء جميع الممثلين خاصة الأبناء. فدوى سليمان أجادت بشكل عام، على الأخص في المشهد الذي أرادت الإيحاء لندى بأنها استحوذت أخيراً على عامر بينما هي تكابد من فشلها في ذلك وتهتز من التوتر والعصبية، إلا أنها أحياناً أظهرت التشدد المبالغ فيه عند نطقها كلمات نهاية بعض جمل الحوار. فايز قزق وصبا مبارك استطاعا بجدارة يحسدان عليها إيصال تناقضات مشاعرهما.. العنف، الشوق، الرغبة، الانكسار، التوجس، الانتظار.. الخ بتعابير وجهيهما، فتفوقا على كل حوار في إيصال مكابدات السكوت عنه. كما وظف عبد اللطيف عبد الحميد المؤلف والمخرج لقطات غالزومف بفنية عالية وتناغم مع أداء فايز وصبا التي أشاهدها لأول مرة تؤدي دوراً سينمائياً.. كانت صبا ترقص أو تؤدي بجسدها ووجهها ما عجز لسانها عن التعبير عنه كأنها ترفرف من حالة اختناق بعد خروجها من سجن زوجها بينما يظهر وجه فايز قزق مبتسماً خائفاً عاشقاً من شباك السيارة. ‏

في السجن تجلس مقابل زوجها زهير، تحدثه عن ابنتهم وعن حرصها على إحضار كل ما يحب.. فيقاطعها بالسؤال عن عامر بكثير من الشك. فيتحول وجه صبا الى أحاسيس مضطربة مليئة بالأسى والنبذ والندم قائلة: الجميع تخلوا عنا إلا عامر! ‏

وفي تلك الليلة التي ربما هي آخر ليلة جمعت ندى وعامر.. يطالعنا وجه صبا مبارك ـ ندى ـ المليء بمشاعر الحب والرغبة والرقة لبرهة يتحول الى وجه نادم وقاسٍ يشع منه قهر مرير وعذاب مدفون قائلة دمعتها: «روح» قبل شفتيها. يقابلها وجه عامر ـ فايز قزق ـ المخطوف بالمشاعر المتدفقة بعنف العشق وقسوة الفزع من فقدان ندى. إنهما القريبان جداً، والبعيدان جداً. في حضرة مسؤول الدائرة يختصر فايز قزق مأزق عامر الذي ظل يسعى لمدة عشر سنوات للإفراج عن صديقه زهير وكيف تحوّل الى بائس، غريق من فكرة فقدانه ندى.. بينما هو في واقع الأمر ـ رغم طيبته وحنيّته ومثابرته المحمومة من أجل تكاليف الحياة ـ إنسان غير قادر على اتخاذ قرار، أي قرار حاسم في حياته.. ‏

إنسان مدجّن، عشش الخوف في صدره وترعرع بقوة. هو هنا ليفبرك تهمة ضد صديقه زهير ليبقى في السجن.. يتبلكم حتى الخرس، كأن فايز قزق في هذه اللقطة جمع كل خوف العالم في وجهه. فيطلب منه المسؤول أن يكتب ماليس قادراً على قوله. مطلقاً تلك الضحكة الهازئة المتحشرجة غير الصاخبة التي اختصرت الموقف ـ المقابلة مع عامر. ‏

عمر حجو، يارا صبري ضيفا الشرف الرائعين. محمد قنوع والياباني كازاكي أدّيا دورهما بتلقائية شديدة مقنعة.. مع تميز نضال سيجري بأداء إحساسي الظلم والشك في السجن، وتلك النظرة الضبابية مع خروجه الى الحرية.. كان غمكياجه.. الشعر، الوجه...الخف غير مقنع وغير متناسب مع حالة سجين حمل في قلبه كل ماحمل. ‏

ساهم ديكور موفق قات في التعبير عن ذوق أبطال الفيلم ومستواهم الاجتماعي وميولهم الفكرية الى جانب كل تلك المفارقات الساخرة ونقلات الكاميرا السريعة ما بين الليل والنهار، الحرارة المرتفعة والمطر، تناوب الأمكنة، دمشق القديمة، الشقق العالية، الشرفتان، سفح جبل قاسيون سيران العائلتين الدائم... فعندما يسأل ابن عامر:أين بيتنا؟! يجيبه الأب: إنه خلف ذاك البيت الكبير. من قاسيون يصبح بيتهم خارج التغطية وعنوان الفيلم يلخص وضع الجميع.. الجميع في الحقيقة خارج التغطية.. لكنهم في حياة دمشق المعاصرة، العاصمة التي نمت وتوسعت، بشر لهم أعصاب ودماء ومشاعر، يكدّون.. يتمردون.. يعشقون ويتعثرون.. ينتمون لهذا الزمن.. زمن الألفية الثانية ويتأملون الخروج من عنق الزجاجة بعيداً عن نوستالجيا زمن مضى. ‏

نضال حمارنة

المصدر: تشرين

إقرأ أيضاً:

المثلث الإيراني- التركي- السوري يفوز بجوائز مهرجان دمشق السينمائي

مدن ونساء وحنيـن فــي ضيافـة مهرجان دمشق السينمائي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...