من الاجتهاد الى الإصلاح الديني

07-02-2009

من الاجتهاد الى الإصلاح الديني

لم يفتأ الفكر الديني الإسلامي المعاصر يطرح قضاياه، منذ القرن التاسع عشر الى الآن، في قالب سرديات لا في قالب مفاهيم. وسردية الاجتهاد هي مثال على ذلك، ومضمونها تشبيه الاجتهاد بالباب الذي أغلق في فترة ما وتقرر إعادة فتحه في العصر الحديث. ولقد مرّ أكثر من قرن على نشأة هذه السردية في صيغتها الحديثة، وتطوّر الواقع اليومي للمسلمين تطوراً جذرياً منذ ذلك الحين، لكن الوعي الديني السائد لم يجار ذلك التطور فقبعت مباحث الاجتهاد الجديد في قضايا جانبية مثل أحكام الحجاب والنقاب واللحى بل لم تصل الى قول فصل في هذه المسائل بعد طول نقاش. أو أنها حاولت طرق قضايا جديدة مثل المعاملات المصرفية وعقود التأمين والإجهاض والاستنساخ لكنها لم تخرج عن المنهج القياسي الموصوف في كتب أصول الفقه، مع أن القياس يفترض وحدة الموضوع بين الفرع والأصل وهذا أمر قد تغيّر لاختلاف طبيعة العصر الحديث عن طبيعة العصر الوسيط.

تفسير المشكلة
1 - يرجع السبب في محدودية الاجتهاد الإصلاحي الى أن الاحتفاظ بما يعرف بشروط الاجتهاد كما وضعها القدامى إنما يترتب عليه حتماً إعادة إنتاج نفس المواقف القديمة، لأن تلك الشروط هي في الحقيقة آليات لإنتاج المعرفة، فكيف تتغيّر المعرفة ان لم تتغيّر آلياتها وكيف تتغيّر النتائج إذا لم تتغير مقدماتها؟
2 - إذا ترك الاجتهاد الديني من دون آليات وضوابط فلا يترتب على ذلك انتشار الآراء الجديدة، كما كان يظن سابقاً، وانما غلبة الآراء الغوغائية بسبب التنافس بين المتصرفين الصغار في إدارة المقدّس، بحسب العبارة المشهور لماكس فيبر. والتطرّف الديني هو نتيجة مناخ «المزايدة المحاكاتية» Surenchere mimetique التي تدفع الوعي الديني باتجاه محاكاة الأصل بدل الانفتاح على التغيرات الإيجابية للعصور.
3 - إن تحوّل الدين من شعور الى معرفة لم يحصل في الماضي إلا باقتباس المعارف الكونية التي كانت متاحة في حدود العصر الوسيط، ومنها الفلسفة القديمة بنظرياتها الميتافيزيقية والفيزيائية والمنطقية واللغوية والنفسية، ولم تتوقف هذه المعارف عن التطور لكنها أصبحت تشتغل بدورها في لغة دينية. فكل تراث العصر الوسيط لا يمكن إدراكه إلا عبر عملية تفكيك لهذه العلاقة المعقدة بين الرافدين الفكريين. هذه المعرفة معطى موضوعي للدراسة، وهي تمثل الجانب الأكبر مما يدعى بالتراث. وهي حاضرة في كل قطاعات هذا التراث حتى الأدب والعلوم. كما أنها ليست انتاجاً عربياً مستقلاً بنفسه، بل تفاعل خصب مع مجموعة المخزون المعرفي للعالم القديم، وقد ساهمت أديان عدة في صياغته وتكييفه.

مقترح حل المشكلة
1 - الاجتهاد لن يكون جهداً مجدداً إلا إذا ما ارتكز على نظرية جديدة في التأويل واقتبس من المعارف التأويلية الحديثة نتائج مباحثها في قضايا اللغة والوعي والعلاقة بين الذهني والخارجي ومناهج التعامل مع النص وغير ذلك. والاجتهاد القديم قد قام أيضاً على اقتباس مجموعة من المفاهيم والآليات التي كانت متاحة للمعرفة العامة ولم تكن مصادرها دينية.
2 - الاجتهاد الحقيقي هو الذي يأتي نتيجة اصلاح ديني عميق، ففي غياب ذلك يرتدّ الى مجموعة من الحيل الشرعية أو الحيل البلاغية. وثمّة فارق بين الاجتهاد والإصلاح الديني.

محاولة تحديد مفهوم جديد للاجتهاد
الاجتهاد هو جهد عملي لتكييف التصورات الدينية التي تتمسك بها مجموعة بشرية مع المتطلبات الذهنية والمادية التي يفرضها طوّر أنماط العيش، فهو محاولة لتحقيق التوازن بين الإيمان ومقتضيات العصر. ولما كان الإيمان أمراً ذاتياً لا يخضع لمحددات موضوعية مطلقة فإن هذا التوازن، ثم هذا الجهد العملي المسمّى اجتهاداً، يظلاّن مسألة عملية اعتبارية تتغير بحسب العصور والحاجات.

محاولة تحديد مفهوم جديد للإصلاح الديني
الإصلاح الديني فهو في صياغته الأكثر شمولية اعادة ترتيب جماعية للعلاقة بين التصور الديني والتصور الاجتماعي في الخبرات المعيشية لمجموعات بشرية ذات تنظيم اجتماعي وثقافي معقّد. لا يتمثل الإصلاح الديني في مراجعة بعض المواقف والأحكام بل التفكير بعمق في وظائف الدين في المجتمع. لقد تغيّرت وظائف الدولة والآلة والمختبر والمدرسة في العصر الحديث، فمن الطبيعي أن تتغيّر وظائف الدين وعلاقاته ببقيّة المؤسسات الاجتماعية.

محمد الحداد

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...