الشك ملازم لليقين و كل معرفة يقينية بالمطلق هي وصفة للتحجر

15-04-2007

الشك ملازم لليقين و كل معرفة يقينية بالمطلق هي وصفة للتحجر

الجمل ـ د. ثائر دوري: ندعي ، نحن معشر الأطباء، أننا نمتلك الحقيقة كاملة ، فنحن نعرف كل شيء عن الأعراض التي تصيب الجسم البشري . كما أننا ندعي امتلاك علاجات لكل ما يطرأ على هذا الجسد من تبدلات و آلام و أمراض ، لذلك لا نجد أهمية كبيرة لنصغي لما يعتقده المريض عن مرضه ، و لا لأفكاره عن أسباب ما يعانيه ، و لا لتصوراته لطرق معالجته . فغالباً ما نربت على كتف المريض ، كما نفعل مع الطفل الصغير  عندما يقول فكرة يعتبرها معشر الكبار لا معنى لها سوى طرافتها لأنها صدرت عن طفل صغير، أو  نبتسم بسخرية إذا عاد المريض و كرر أفكاره أمامنا و ربما ننهره و نتهمه بالجهل و بإيذاء نفسه . و قد يشتط الأمر ببعضنا إلى اقتراحات لجعل التعامل مع هكذا أفكار و ممارسات لا نعتبرها علمية كالتعامل مع الأفعال الخارجة عن القانون ، أي بالشدة و الحزم ، في بعض الحالات نفكر أن الأمر يحتاج إلى القمع لأن الطفل لا يمكن أن يُترك ليلعب بالنار فقد يحرق البيت . كما أن لسان حالنا يقول : من هذا الجاهل الذي لم يدرس علم التشريح ، و لا فيزيولوجيا الجسم ، و لا علم الأنسجة ، و لا زمر الأدوية ، و لم يدخل إلى غرفة العمليات ، و لم يشاهد الجراثيم تحت المجهر ، و الذي لا يميز بين الفص الجبهي في الدماغ و الفص الجداري  . من هذا الجاهل الذي لا يعرف كل تلك الأشياء حتى يحق له أن يبدي تصوراً حول ما يعانيه جسده ، أو أن يبدي رأياً حول كيفية معالجته! فلا حل سوى إسكاته بأسرع طريقة مهذبة ممكنة ، هذا إذا كنا نمارس الطب في مؤسسة خاصة ،أما إن كان ذلك في مؤسسة عامة فلا أهمية لاستخدام التهذيب في إسكاته. لكن يبقى جوهر سلوكنا واحداً و هو إسكات المريض و إجباره على تناول علاجنا سواء اقتنع أم لم يقتنع .
و أعتقد أن ما ذكرته عن سلوك الأطباء هذا ينطبق بشكل أو بآخر على كل المتعلمين و المثقفين كل في مجال اختصاصه ، فقد أورثتنا المعرفة التي أخذناها من الكتب احتقارا لتصورات أهلنا و لمعارفهم المنتقلة شفاهاً خلال أجيال و هذا موضوع آخر سأتطرق له في المستقبل .
قبل سنوات كنت شاهداً على حادثة لا تفارقني ذكراها ، و ربما هي التي ساعدتني على أن أتحرر من ادعائي احتكار الحقيقة و جعلتني أصغي بجدية لما يقوله مرضاي مهما كان ما يقولونه غريباُ، و في غالب الأحيان أكتشف حقائق مهمة وراء أفكار بدت للوهلة الأولى بمنتهى الخرافية و الغرائبية . الحادثة التي أتكلم عنها حدثت في مشفى عام بين طبيبة حديثة الالتحاق بقسم الداخلية ، فقد استقبلت مسناً متعباً مصاباً بقصور في القلب و الكلى ، وبدأت تسأله الأسئلة المعتادة عن مرضه ( نسميه استجواباً ) . و بعد أن انتهت من الإستجواب دونت بعض الملاحظات على أوراق المريض ، ثم طلبت من زوجته أن ترفع ثيابه عن صدره و بطنه لتفحصه ، فجست بطنه ، و بعدها همت أن تضع السماعة على صدره لتصغي لنبضات قلبه ، لكن زوجة المريض منعتها قائلة :
- لا أريد أن تفحصيه بالسماعة .
سألتها الطبية :
- لم ؟
ردت المرأة :
- سيموت إن فحصته بالسماعة
سألت الطبيبة باستغراب :
- سيموت ! كيف ذلك ؟
أكدت الزوجة :
- نعم سيموت إن فحصته بالسماعة .
و أكد المريض :
- نعم سأموت . 
طالبتهما الطبيبة بتفسير لفكرتهما غير المنطقية عن السماعة ، فأخبرتها الزوجة أن شيخاً قد أخبرهم بذلك و حذرهم من أن يفحصه أي طبيب بواسطة السماعة . هنا انقضت الطبيبة عليهما ، فأنبتهما و اتهمتهما بالجهل . لأن هذه سماعة لا تنفع و لا تضر و مصنوعة من معدن  لا يتفاعل مع الجسم ، و صار همها أن تثبت كذب الشيخ لذلك أصرت أن تفحص المريض بالسماعة مغلقة أذنيها عن كل توسلات المريض و زوجته ، ثم أمرت المستخدم أن يخرج الزوجة خارج غرفة الفحص . و بعد أن استفردت بالمريض لم تصغ لتوسلاته و هي تهم بوضع السماعة على صدره ، بل نهرته ، فاستسلم مكتفياً بنظرة أخيرة تتوسل أن لا تفحصه إلا أنها فعلت . وما إن وضعت السماعة على صدره حتى شهق شهقة كبيرة و علا الزبد فمه و مات . لقد توقف قلبه على الفور و لم تنفع محاولات إنعاشه ففارق الحياة .
لا أريد أن ادخل بتحليل هذه الحادثة . لكنها علمتني أن أجيد الإصغاء إلى مخاوف المرضى و أوهامهم و أن أحترمها مهما كانت غير عقلانية فلا أقدم على أي إجراء لا يرغبون به مهما كان ضرورياً .
 من نحن ! و ما هي حجم معارفنا حتى نجزم أن هذا الأمر عقلاني بالمطلق ، و ذاك غير عقلاني بالمطلق ؟ إن حجم معارفنا التي أخذناها من الكتب عن الكون و الطبيعة  لا تشكل إلا نقطة صغيرة في بحر المعرفة الذي ما زال يسبر الإنسان أعماقه حتى اليوم ، لذلك فالشك يجب أن يلازم اليقين و كل معرفة يقينية بالمطلق هي وصفة للتحجر و الإنغلاق . كما علينا أن لا نضع معارفنا بالتضاد و التقابل القتالي مع معارف مجتمعنا الشفهية و المتوارثة ، التي في قسم كبير منها مبنية على ملاحظات و خبرات و تجارب تراكمت عبر مئات السنين .
منذ سنوات أسمع فكرة يتداولها الناس ، و هي أن جراحة السرطانات تسرع بانتشاره ، و يروون لك قصة عن فلان الذي فتحوا له بطنه لاستئصال الورم فانتشر . و كنت ، كما غيري من الأطباء، أسخر مما أسمع و أعلن بشكل حاسم أن الورم يجب أن يستأصل ، و هذا هو الأمل الوحيد لإنقاذ المريض .مع أني و منذ سنوات أيضاً ،و من خلال الملاحظة الشخصية البحتة التي لا علاقة لها بقراءاتي الطبية، لاحظت أن المعالجات التي يتعرض لها مرضى السرطان في مراحله المتقدمة ، خاصة الكيماوية منها ، تساعد في سرعة قصف أعمارهم و تحول ما تبقى لهم من أيام إلى جحيم لا يطاق . و كان أن قرأت قبل أيام خبراً وزعته رويتر عن دراسة جديدة تذهب إلى ما لاحظه البشر العاديون ،تقول الدراسة:
"إلى أن علاج السرطان سواء أكان بالجراحة أو العلاج الكيماوي أو الإشعاعي قد يتسبب في بعض الأحيان في انتشار الأورام السرطانية . وقال باحثون أمريكيون انهم ربما اكتشفوا أن أحد أسباب ذلك هو مركب يسمي (تي.جي.اف بيتا). وأظهرت تجارب علي الفئران ان استخدام عقار دوكسوروبيكان الخاص بالعلاج الكيماوي أو الاشعاعي تسبب في زيادة معدلات مركب (تي.جي.اف بيتا) الذي أسهم بدوره في انتشار الاورام السرطانية بالثدي الي الرئة. الا ان الدكتور كارلوس ارتيغا وزملاءه في جامعة فاندربيلت في ولاية تينيسي الامريكية أفاد وا ان استخدام أجسام مضادة لعرقلة مركب (تي.جي.اف بيتا) أوقف العملية.
وذكر فريق ارتيغا في عدد مايو ـ ايار من دورية الابحاث الطبية (كلينيكال انفستيغيشن) ان ابتكار عقاقير توقف مركب (تي.جي.اف بيتا) قد يسهم في منع عودة السرطان.
وكتب الباحثون انتشار وتعاقب الاورام السرطانية بعد العلاج المضاد للسرطان ظاهرة ملحوظة جدا. اتضح انها تحدث عقب العلاج الاشعاعي والكيماوي والجراحي .
وتساءل خبراء السرطان ما اذا كان ما يسمي الورم الاولي ـ وهو أول وأكبر ورم ـ قد يكبح بشكل ما نمو اورام أخري وان استئصال أو تدمير الورم الاولي قد يسمح للاورام الاخري التي لم تكتشف بأن تنمو. وقال فريق ارتيغا ان مركب (تي.جي.اف بيتا) المتصل بكل من نمو وتقلص الاورام قد يحوي جزءا من الاجابة. فحين عولجت فئران محقونة بخلايا سرطان ثدي بشري بالعلاج الاشعاعي أو عقار دوكسوروبيكان ارتفعت في دمائها معدلات مركب ( تي.جي.اف بيتا). كما ظهر في دمائها أيضا مزيد من أورام الخلايا السرطانية الصغيرة وهذه الخلايا انتقلت أو امتدت الي الرئتين))

لا أقول إن ما يقوله أهلنا و مجتمعنا من غير المختصين كله صحيح ، بل إن فيه كثير من الخرافات و الأوهام التي لا محل لها من الإعراب و علينا أن نقنعهم بالتخلص منها . لكن بالمقابل هناك شيء اسمه الخبرة الحياتية و الملاحظات و الثقافة المنتقلة شفاهاً عبر الأجيال فلنتعلم كيف نصغي لها ، و أن نصل إلى بذرة الحقيقة في كل أمر مهما بدا لا عقلانياً ، و هذا يتطلب منا أن نتوقف عن ادعاء امتلاك الحقيقة كاملة كل في مجال عمله ، سواء كان طبياً أم غير ذلك . علينا نحن المتعلمين أن نتواضع قليلاً و نتعلم الإصغاء لمجتمعنا في كل شيء فربما نصل إلى الحقيقة .

 

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...