الاستعباد للممكن

15-02-2009

الاستعباد للممكن

 

يجب أن تترك النساء الجميلات لرجال بلا مخيلة (مارسيل بروست)

الجمل – د. تيسير حسون: قد توصف المخيلة عامة على انه قدرة على التفكر بالإمكانات غير الحاضرة فعلياً للحواس. والقدرة التخيلية تجبرنا أن ننشغل ليس في الظروف الحاضرة فحسب، بل أيضاً في أحوال الماضي والحاضر. في الواقع يفكر الناس في المستقبل أكثر من تفكيرهم في الحاضر أو الماضي، والعديد من الحوادث المحتملة أكثر إمتاعاً للمخيلة من التجربة.
إن إحدى أعظم أفضلياتنا على الحيوانات هي قدرتنا على تخيل ظروف معقدة تختلف إلى حد كبير عن ظروفنا الراهنة. بيد أن قدرتنا على التخيل، والتي تحررنا من أغلال الحاضر، تقيدنا إلى مأمول محتمل.
إن النعمة البشرية –وهي قدرتنا على وعي السيناريوهات المحتملة- هي أيضاً لغتنا الأصلية، ذلك أنها تمنحنا إدراك محدودياتنا العميقة فضلاً عن موتنا الوشيك. عندما يطلب إنجلبيرت هامبردين "أرجوك أطلقني ودعني أذهب لأنني لم أعد أحبك"، فإنه يشير إلى قيود الحاضر. التسليم بطلبه سهل هذه الأيام، إذ أن الروابط الشكلية والاجتماعية والعملية التي تعترض سبيل الهجر أقل من السابق.
تكمن الصعوبة الأعمق في قيود المحتمل: لقد غدونا عبيداً للعديد من الخيارات الرومانسية المغوية المتاحة في الحياة المعاصرة – الإنترنيت ورحلات العمل والجوالات جميعاً تيسر إمكانيات رومانسية وجنسية مختلفة. وقيود الاحتمالات المحتملة تمنعنا من الاستمتاع أو حتى حصولنا على الراحة مع الحاضر وغالباً ما يصعب الهروب من قيوده. إننا نميل للاعتياد على هذه القيود، لأنه في واقع الأمر ليس لنا خيار آخر. من الصعب التغلب على قيود المحتمل، لأن هذا العالم المقيد إلى مخيلتنا فحسب، شديد الإثارة. قد يجعلنا الحاضر حزينين، لكن عالم المحتمل يجعلنا ضجرين متململين ومحبطين باستمرار. يتطلب التأقلم مع النعمة المختلطة للممكن إقامة ترتيب معياري للأولويات على شكل مُثل عليا وحدود. عندما نضع مجموعة من الأولويات المعيارية، سنجد أنفسنا في الغالب نتخلى عن مثل ما أو ننتهك حداً ما.
البحث المتواصل عن المحتمل غالباً ما يمنع الناس من إيجاد الحب. تعبر العديد من الأغنيات عن ذلك: "لا يمكنك أن تكون سعيداً وقلبك في طواف، لا يمكنك أن تكون سعيداً حتى تحضره إلى البيت".
الحاضر هو نوع من ملجأ محدد: إنه يحمينا من الأحداث المهددة المحتملة، لكنه أيضاً يمنعنا من الاستمتاع بأحداث مستحيلة محتملة. مغادرتنا لملجئنا الضيق على مغالبة ليس فقط الظروف الفعلية بل المحتملة أيضاً. ووجود احتمالات لا متناهية يؤكد قصورنا ومحدوديتنا، على اعتبار أن هذه الاحتمالات قد تكون أفضل من الوضع الميسور. وتستطيع المخيلة أن تجعلنا مدركين بحدة للأوضاع المرغوبة التي يتعذر الوصول إليها، والتي هي في العادة أوضاع غير مناسبة، فضلاً عن الأوضاع المرغوبة ولكن الحتمية. معرفة مثل هذه الاحتمالات وعجزنا عن مقاربتها أو تجنبها يستلزم إدراك المحدوديات البشرية الأساسية. ثمة أم عازبة انخرطت في علاقة مع رجل متزوج لكنها مع ذلك تصر ونتيجة الأسباب الأخلاقية، أنها وبشكل نموذجي "لا تشعر بالتعلق بالرجال المتزوجين". هذه المرأة تعبر عن إدراكها للمحدودية الناجمة عن الفجوة بين رغباتها وظروفها كما يلي: "طالما أني باقية مع الهبات الراهنة لعلاقتنا (وثمة العديد منها)، ولا أهيم بتخيلات عن المستقبل، فأنا أكثر سعادة. أقدر علاقتنا ولن أحاول أن أنهيها فقط بسبب محدودياتها المتأصلة فيها، أنا أحاول أن أبحر بشكل مناسب".


 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...