متلازمة القراءة... وثقافة الأدب المقاوم والسياسة

28-08-2015

متلازمة القراءة... وثقافة الأدب المقاوم والسياسة

لعلني أستشهد ببعض ما قيل عن القراءة، عباس العقاد (صاحب العبقريات الخالدة) يقول بأن القراءة تطيل العمر. أما الجاحظ فيقول: «يذهب الحكيم وتبقى كتبه، ويذهب العقل ويبقى أثره». أما فرانسيس بيكون: «القراءة تصنع الرجال». مونتين يصف القراءة «بأنها الصديق الذي لا يخون طيلة الحياة».

بعد ذلك، فلنجعل الحقائق والأرقام تتحدث عن نفسها وعن نسب قراءة أبناء امتنا، ومقارنة النسب مع مثيلاتها عند الشعوب والأمم الأخرى (معتمداً في ذلك على إحصاءات منشورة لكل من مؤسسة الفكر العربي، والتقارير الثقافية العربية، وتقارير إنمائية للأمم المتحدة عن العالم العربي... وغيرها). معدل قراءة الفرد العربي 6 دقائق سنوياً، أو ربع صفحة من أحد الكتب. ما يطبع في العالم العربي مجتمعاً 17 ألف كتاب في السنة. سوق الكتاب العربي بيعاً وشراءً لا يتجاوز 4 ملايين دولار سنوياً، كل 300 ألف من العرب يقرؤون ما مجموعه كتاب واحد سنوياً.

نصيب كل مليون عربي هو 30 كتاباً في السنة. أما على صعيد الكتب المترجمة من لغات اخرى فإن نصيب كل مليون مواطن عربي هو 4.4 كتاب سنوياً. معروف أن الناشرين يطبعون من كل كتاب جديد (باستثناء كتّاب مثل هيكل وغيره) 2000 إلى 3000 نسخة في اكثر الحالات! معروف ان المؤلف العربي لا يتقاضى عن إبداعاته سوى بضع مئات (أو من الآلاف في أحسن الحالات) من الدولارات. أما الكتب الأكثر مبيعاً في معارض الكتب العربية، فغالباً ما تكون كتب الأبراج، وتعليم الطبخ، ومذكرات وفضائح الفنانات والفنانين.

نعود إلى النسب في الدول الأخرى: معدل ما يقرأه المواطن الاميركي 11 كتاباً في السنة. اما البريطاني فـ 8 كتب. الكيان الصهيوني 7 كتب. معدل الكتب التي تصدر في «الكيان» 40 ألف كتاب سنوياً. نصيب كل مليون مواطن في الكيان على صعيد الكتب المترجمة 580 كتاباً سنوياً. معدل قراءة الأوروبي 200 ساعة سنوياً. قيمة سوق الكتاب في دول الاتحاد الأوروبي 12 مليار دولار سنوياً.

حتى اللحظة، فإن تعريفاً محدداً للمثقف لم تجر صياغته، انطلاقاً من الزوايا العديدة التي يتم النظر من خلالها اليه، وانطلاقاً من رؤية دوره أن بالمشاركة في عملية التغيير السياسي او في سياسة التغيير المجتمعي. فلطالما تحدث الفلاسفة والمفكرون عن تعريفات وأدوار شتى للمثقف، ومن بينهم ابن خلدون الذي أطنب في استخدام مفاهيم مثل «اصحاب القلم» و«الفقهاء» و«العلماء» والذي افرد فصلاً كاملاً من مقدمته، أكد فيها «ان العلماء من بين البشر، هم أبعد ما يكونون عن السياسة ومذاهبها».

ولعل من أقرب التعريفات الى الواقع ما ذكره غرامشي في تعريفه لمعنى المثقف، منطلقاً مما هو خاص بنمط الانتاج، لذا يرى غرامشي، المثقف، من خلال وجوده الاجتماعي... وإذ ذاك فإنّ نقل الثقافة من عالم افكار واهتمامات ذوي الاختصاص الى عالم الصراع الاجتماعي، هو الذي يعيد صياغة المثقف عند المفكر الإيطالي. غرامشي لا يرى المثقف إلا في وظيفته النضالية التي تجعل من الممارسة لحظة داخلية في مجمل عملية التغيير وهكذا دواليك. ووفقاً لجمال الدين الافغاني، فإن دور المثقف يتمثل في التأمل في الحاضر من اجل تفسير النبل الانساني واضاءة الطريق لأبناء امته على قاعدة التمتع بالروح النقدية الفلسفية، واستخدامها في مراجعة الماضي. والمثقفون مرتبطون أيضاً في نتاجاتهم، بمدى معايشتهم للواقع من حيث إدراكه ومدى التأثير فيه على طريق تغييره.

محمود درويشمن أجمل من كتب في ثقافة الادب المقاوم: لويس أراغون، بابلو نيرودا، مكسيم غوركي، ناظم حكمت، لوركا، نيكوس كازانتزاكيس، غسان كنفاني، محمود درويش، سميح القاسم وتوفيق زياد...

ظلّ كل هؤلاء خالدين أكثر من أي سياسي سواء في بلدانهم أو على صعيد العالم. وذهب الذين أعدموا البعض منهم وأسيادهم إلى مزابل التاريخ. لوركا كان يلقي شعره في لحظة إعدامه. بابلو نيرودا وعندما جاء قطعان بينوشي (بعد انقلابهم الأسود على الرئيس المنتخب سلفادور أليندي) ليفتشوا بيته بحثاً عن السلاح طردهم، وقال جملته الشهيرة: سلاحي هو شعري. كازانتزاكيس يقول عن المقاومة، وعلى لسان الراهب «ياناروس» في رائعته «الإخوة الأعداء»، بعد أن فشلت كل دعواته إلى الإخاء والمحبة والسلام من إخراج المحتلين لأرضه ووطنه اليوناني: «أيتها الفضيلة تسلّحي... أيها المسيح تسلّح... إني سأعلن الإنجيل الجديد في كل مكان إنجيلاً مسلحاً».

يقول محمود درويش: «هزمتك يا موت الفنون جميعها... هزمتك يا موت... الأغاني». وهكذا توفيق زياد وسميح القاسم ومن قبل عملاق الأدب الفلسطيني والعربي والإنساني المقاوم الشهيد غسان كنفاني. وهكذا يكون الارتباط بين أدب المقاومة وبين السياسة والثقافة فهذا الأدب هو ثقافة وسياسة أيضاً.

السياسة تفرض ذاتها على كل مناحي الحياة. السياسة هي فن إدارة شؤون الدولة الداخلية والخارجية، وتُعرّف إجرائياً بحسب هارولد لاسويل بأنها دراسة السلطة التي تحدد من يحصل على المصادر المحدودة متى وكيف، أي دراسة تقسيم الموارد في المجتمع عن طريق السلطة، وعرّفها الشيوعيون بأنها دراسة العلاقات بين الطبقات، وعرّف الواقعيون السياسة بأنها فن الممكن (غورباتشوف)، أي دراسة وتغيير الواقع السياسي موضوعياً! لكن التعريف الأخير هو خضوع للواقع السياسي وعدم العمل على تغييره. إن عملية التغيير يتوجب أن تستند إلى الواقع... الى كل عناصره الايجابية الكامنة في الذهنية الجماهيرية، والتي تمكن مخاطبتها على طريق محاولة استنهاضها. وذلك من اجل ترسيخ الوعي الوطني والقومي كعامل اساسي وشرط رئيسي لإنجاح التغيير. وهكذا يكون الارتباط بين القراءة والثقافة والسياسة.

فايز رشيد

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...