قراءة في مجموعة "ضفاف تخلع صفافها"

10-02-2010

قراءة في مجموعة "ضفاف تخلع صفافها"

الجمل-  محمد سعيد حسين:
"إنهم يخوّضون في الوحل، بحثاً عن اللآلئ"..!!
أظنّ أن هذه المقولة تنطبق على كل المجانين الّذين امتلكوا جرأة اقتراف كتابٍ مطبوع، وأخصّ منهم أولئك الّذين أجّلوا جنونهم إلى ما بعد سن الجنون الجميل ـ سنّ الشّباب الأوّل أعني ـ فهؤلاء، كمن يصر على تطريز أثواب الرّيح*.
في باكورتها الشّعريّة، تطلّ علينا الشاعرة السوريّة وداد سلّوم، بعنوان لكتابها، سيبدو لنا فاجعاً "ضفاف تخلع صفصافها"، فنتوجّس، ونستنفر عقيرتنا في الحزن تهيؤاً وتهيباً من الدخول إلى ما بعد العنوان وما ينضح عنه، لنكتشف بسرعةٍ أنّها استغنت عمّا درجت عليه عادة الأدباء، خصوصاً في إصداراتهم الأولى، ألا وهو "الإهداء"، فهي نقضت هذه العادة، ما يشي بأنّها تريد الاستئثار بحزنها المشهر في ذلك العنوان، الّذي سرعان ما سنكتشف كم كان مخاتلاً،  حيث نلحظ بداية أنّ ضفاف "سلّوم" لم تكتف بخلع صفصافها، بل تعدّته إلى (مسح الصباح عن شبّاكها)
(...لا يزال الشتاء قاسياً،
هل ستواعدني في غمرة البرد؟!
أمسح الصباح عن شبّاكي، أمدّ نظري، لا سماء!...)
وماذا بعد الصّباح؟! الجواب ببساطة: "لا سماء"، وحين لا سماء تحلّق فيها عصافير فرحنا وضحكات صفصافنا، فقتل هذا الصفصاف أو خلعه من ضفافه أجدى وأرحم.
وسيلحظ القارئ أن سوداوية الحزن المشهر في العنوان، ستتجلّى في مواضع كثيرة على امتداد مساحة الكتاب، فـ "الزمن" لدى وداد هو:
(ثقبٌ صغيرٌ، تتسرّب منه مياه العمر، دون موسيقا)
أمّا الـ "حنين" فهو :
(نارٌ ترعى الأوصالَ، وتولم الرّوح.
غربةُ عينين، ودمعٌ لا تمسحه أيدٍ أليفة.)
بيد أنّ مخاتلة العنوان، سرعان ما تتكشّف لنا، عبر أولى قصائد الديوان "بداية" حيث تقرر الشاعرة أن تطلق رغباتها الضالة خلف سراب أملٍ مرتجى:
(...سأستحمّ في بركة الدموعِ التي جمعتها
كنساء المحاربين في بابل،
وأرتدي أغنيةً سافرةً.
سأطلق شعري للغمام،
وأزين صدري بالياسمين،
ها أنذا ألتقيه أخيراً...)
فثمّة أمل عليها التشبّث بذيوله، والعمل على تحقّقه، ولو بالحدّ الأدنى المتمثل في استحضار تعويذة النساء البابليات في جمع دموعهنّ تفاؤلاً بعودة أزواجهنّ من حروبهم سالمين، ولعلّ عبارتها الأخيرة (...ها أنذا ألتقيه أخيراً...) تعكس رغبتها بالانسجام النفسي مع الأسطورة البابلية وجدوى تمثّلها..!
بهذين المستويين للحزن، الأول: الحزن البائس اليائس السوداوي، والثاني: الحزن الحالم الحامل بعداً تفاؤليّاً، يتضح لنا أنّ صدمة فجائعية العنوان، ستتحوّل إلى فضول مخاتل مخاتلة الشعر ذاته، وسيتعدّى مفهوم الخلع هنا، إلى إعادة اعتبار متعمّدة، لحزنٍ شفيف يمتدّ على مساحة الكتاب:
*(...نم باكراً يا صديقي،
فأنا مازال لدي وشاح للرّيح
عليّ تطريزه...)
ثمّة لعب على اللغة ومدلولاتها تمكن ملاحظته بسهولة في هذه المجموعة، عبر محاولة الشّاعرة لاستنفار أقصى ما يمكن من المخبوءات الدّلالية للمفردة من جهة، وللعبارة الشّعرية من جهةٍ أخرى، في سعي حثيث لتسخير الأولى في خدمة الثانية، فتخرج بعض العبارات غايةً في الأناقة والقوّة، كاشفة عن مقدرة خاصة ومميزة لدى الشاعرة، على صياغة جملتها الشعرية مفعمة بالتّكثيف اللفظي والدّلالي، وبانسيابية تنبئ عن علاقة أليفةٍ بين سلّوم ولغتها:
(كيف تحبَل الأشجار
بلا حبل سرّي،
وتنجب الينابيع
على الطرقات؟!!)
تساؤل غير بريء، تضعه الشاعرة في مرمى دهشة القارئ، الّذي لن ينجح ـ غالباً ـ في الفصل بين متعة التلقّي الجمالي، وصدمة التّمثّل الحسّي للتشكيل اللغوي الّذي حمل هذا التّساؤل، ليجد نفسه وقد تورّط بالانسياب مع ماء الينابيع "المسفوح" على الطّرقات، غير آبهٍ بدايةً، لخيبة مكتنزة، وحزنٍ دفين هادئ، ينم عنه هذا التساؤل، فـ "الحَبَل" الّذي تمّ بأيسر السبل، وبلا حَبْلٍ سرّي، فالحَبََل هنا بلا دَنَس بالتّأكيد، وهو سينجح بإنجاب "الينابيع" أيضاً، ولكنها ينابيعٌ مسفوحةٌ على "الطرقات"، وحسب..!!
غير أنّه ــ أي القارئ ــ سيتنبّه بعد حين، إلى خطورة هذا التّساؤل وعمقه الفلسفي والتّاريخي والإنساني، عبر مقاربة بسيطة لأسطورة حَبَل السيّدة العذراء "شجرة العطاء" التي أنجبت السّيد المسيح "ينبوع المحبّة"، هذا الّذي "سفحه" قومه بلا طائلٍ، على "طرقات" أطماعهم، عبر تعذيبه وصلبه وقتله..!!
هذه المفارقة المفخّخة لغةً، والضّاجّة بالأسئلة مضموناً، ستشكّل جزءاً لا يتجزّا من لعبة سلّوم الشعرية، عبر كثير من قصائد الديوان :
(بعينين شاخصتين
تلتقطان طنين الهواء،
أرقب الطريق الصاعدة
أتراه يمرّ ثانية،
ذاك الرّاعي الّذي أضاع خرافه
في أحشائي؟!)
....
(...كم من البرد، حين تصطدم بأفق؟!)        
(...أيها الوقت، كلّما مررت بي، أحتاج مسيحاً يعلّمني النّدم...)
ورغم هذا التّكثيف اللغوي الضاجّ بالشعر والحكمة لدى وداد سلوم، الّذي سيستمر بدءاً من عنوان المجموعة، مروراً بعناوين قصائدها التي غالباً ما تقتصر على كلمة واحدة ( بداية ـ امرأة ـ ذاك ـ لوحة ـ خيبة ـ صباح ـ مبادلة ـ مراقبة ـ شتاء ـ أخضر ـ ... إلخ) فثمّة ما يمكن ملاحظته على المقلب الآخر، هو هذا الحضور الواضح لبعض الاسترسالات السّرديّة الّتي تبرز في القصائد الطويلة نسبياً، ودون أن يعتدي السّرد على الشّعر في أغلب الحالات، بل غالباً ما تمّ توظيفه في بناء نصّ شعري مرصّع بحكائيّة استطاعت أن تضفي سحراً خاصاً على بعض القصائد، دون إفقادها بهجة الشّعر وعبقه:
(...حين تلتمسين عطر البراري،
توقظين ما بذل الرّاعي عمره
لينام.)
(... حين غرق آخر الرّجال
في عبق التّفّاح،
أخمد الله أغنياته..!
وحيدةً، كعادتي،
صلبت الجثمان،
واكتفيت)
بيد أنّنا يمكن أن نلحظ في بعض استطرادات السّرد لدى الشاعرة، شيئاً من التّقريرية في بعض المواقع، كقولها:
ذاك المساء
"لم أنم"،
حين مرّ بجانبي حبّ هاربٌ
"يقضم أزهار الياسمين
على عجل"،
خائفةً ـ كعادتي ـ
أغلقت روحي
وارتجفت..!
وكذلك في مقطع آخر من القصيدة ذاتها "ذاك" نقرأ:
(ذاك الصّيف،
"سقطتُ من سقف السماء"
حين غرق آخر الرّجال في عبق التفّاح...)
فلو جرّبنا حذف العبارات التي وضعناها بين مزدوجين من المقطعين السابقين، هل سينقص شيء من النّصّ، وهل أضاف وجودها شيئاً للمتلقّي؟!
هذه العبارات، وغيرها مما يمكن رصده في بعض القصائد مثل (زيارة ـ عري ـ صندوق الدنيا ـ أخطاء) تبدو، كما يخيّل إلي، كثآليل قبيحةٍ على جسدٍ هائل الإغواء، بينما تكاد قصائد المجموعة الأخرى تخلو من هناتٍ مماثلة، وهذا إن دلّ، فإنّما يدلّ على أنّ الشّاعرة تمتلك القدرة على تجاوز هذه "الفجوات" فيما ستقترفه من قصائد لاحقة، وهذا ما قد يحتاج منها جرأة القسوة على نصّها لاستئصال ما قد يبدو للقارئ زيادات نافلة.
ثمة كثير مما يمكن أن يقال حول هذه المجموعة وفيها، لا تتسع له هذه العجالة، ولكن لا بدّ من  الإشارة إلى أنّها ـ كإصدار أوّل ـ تبشّر، على ما أزعم، بشاعرةٍ تتقن لعبة الشّعر، حيث استطاعت عبر هذا العمل، أن تستنفر لديّ استجابة تذوقية جماليةً مباشرة لأغلب نصوصها.
 ولاقتناعي التام بحتمية الاختلاف بين قارئ وآخر، في أسلوبية التعاطي مع أي منجزٍ إبداعي وآلية تذوّقه، أدرك أنّ أيّ حكم قيمة، سواء مدحاً أو قدحاً، ومهما اقترب من درجة الإنصاف، سيبدو للآخر نافلاً، وبالتالي تنتفي هنا إمكانية إفادة منتج النص ومتلقّيه على السواء، هذا إن لم يتعداه إلى موقع المصادرة المسبقة لذائقة قارئ آخر، في مكانٍ آخر، وهذا ما أرجو أنني لم أقترفه في هذه المقاربة.

 


إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...