عن قضية التكفير

10-10-2009

عن قضية التكفير

مازن كم الماز: عاد جنون التكفير ليحاول التعويض عن الأزمات العميقة التي ينتجها نظام الاستبداد في الخرطوم , عندما تعود الأمور من جديد لتحاول من تسمي نفسها الرابطة الشرعية للعلماء السودانيين تنصيب نفسها حاكما أعلى على ضمير السودانيين و تحاول أن تؤكد على حقها الحصري في رسم خطوط التفكير المسموح و غير المسموح , يطرح من جديد السؤال : من يحق له تكفير أي نزعة نحو الحرية و العدالة الإنسانيتين ؟ و إذا كان التكفير فعل فقهي بحت فمن هو الذي يجرؤ , و بأي درجة من الوقاحة , على محاولة استئصال حق الإنسان في التفكير و النقد الحر , و حلم البشر بعالم أفضل , بالانعتاق من القمع و القهر و الاستغلال .
من المؤكد تاريخيا بالفعل أن التكفير بدأ ( كما هو الحال اليوم ) سياسيا , و ارتبط أساسا بتأسيس السلطة المطلقة في الدولة الإسلامية الناشئة , أولا ضد القبائل التي رفضت أداء الزكاة لأول خليفة معلنة بذلك تمردها على سلطته المركزية , رغم أن النصوص الدينية , بما في ذلك التي "جمعت" في وقت لاحق , لا تقدم تبريرا لهذا التكفير و ما تبعه من أعمال عسكرية لإخضاع المتمردين بالقوة , و من ثم في الصراع على السلطة , كما فعل معاوية و أبناء أسرته الأموية من بعده عندما أمر بسب علي بن أبي طالب في المساجد , لذلك فإن محاولة إلصاق التكفير بالخوارج تحديدا غير صحيحة عدا عن أن فكرة التكفير عند الخوارج تمركزت أساسا على السلطة التي كفرتها لمبرر أساسي هو عدم قيامها بالعدل و الشورى و ليس , على الإطلاق , لعدم تقيدها بنسخة سائدة عن فهم النص المقدس كما سيكون الحال فيما بعد ( لهذا إسقاطات هامة تهدف لتبرئة السلطة أساسا من تهمة الكفر ) و حتى عندما استخدم الخوارج هذا المفهوم ضد الناس كان مبررهم هو تخاذل هؤلاء أمام السلطان و استسلامهم لطغيانه , بينما سيستخدم هذا المفهوم , أو السلاح بالأحرى , ضد المفكرين الأحرار في فترة لاحقة و ستستثنى السلطة تماما من مفعول هذا المفهوم , ابن حنبل رغم مواجهته الشرسة مع السلطة العباسية التي نصرت الفكر المعتزلي في بداية الأمر لم يعتبر معركته هذه ضد السلطة بل ضد المعتزلة و أصر حتى في أحلك مراحل هذه المواجهة على استبعاد السلطة نفسها عن التكفير أو حتى عن أي نقد ( أقل حدة ) على العكس من موقفه المتشدد دون هوادة من المعتزلة أنفسهم .
في الحقيقة إن المؤسسة الدينية هنا تصر مرة أخرى على تجريد سلاح التكفير ضد الفكر النقدي , إنها تجرده ضد أي نزعة إلى العدالة و الحرية , عدا عن أنه وسيلتها للحفاظ على تأثيرها من جهة و بالتالي سلطتها المعنوية على وعي الجماهير و من جهة أخرى على دورها في بنية الأنظمة القائمة , أما القوى التي تستخدم سلاح التكفير ضد السلطة اليوم فإنها قد بقيت لفترة طويلة جدا تمثل المؤسسة الفكرية التابعة لأشد الأنظمة رجعية و قامت لعقود بتبرير القمع الواقع على اليساريين معارضي تلك الأنظمة ( بتهمة العلمانية ) و تبرير أقسى و أشنع حالات القهر و الاستغلال المنفلت الذي مارسته تلك الأنظمة ضد شعوبها بما في ذلك نهب أمريكا و المراكز الرأسمالية للبترودولار التي تتباكى عليه اليوم , الذي طالما أحرقت بخورها حول دولاراتها التي تقاسمتها لفترة طويلة مع تلك الأنظمة و أسيادها في المراكز الرأسمالية , أما تكفيرهم للسلطة فما هو إلا المرحلة الأولى ليقيموا سلطتهم , ديكتاتوريتهم , الخاصة , التي تريد استبدال حراس السجون القائمة بحراس جدد , بلحى أطول و كراهية لا حدود لها لكل فكر حر , لكل إنسان حر .
هناك أشكال مختلفة للكفر , هناك من يكفر بالطغاة و هناك من يكفر بحرية الإنسان و بحلمه في غد أفضل , بأحلامه التي طالما أخفاها طوال تاريخ طويل من القهر و الاضطهاد عن عيون الحراس , هناك من يكفر بكل من يستعبد الإنسان و هناك من يكفر بكل ما يحرر الإنسان . إن الحلم بالحرية و العدالة ليس غريباً عن الإنسان العربي , و لا هو اختراع معاصر و لا أجنبي , إنه اختراع الجماهير التي تحلم بالخلاص من القهر و الاضطهاد , بل إنه في الواقع اختراع الطغاة أنفسهم و كل أزلامهم , إن الغريب عن الناس هم أولئك الذين يحقدون على حلمهم بالحرية و توقهم إلى العدالة , لقد أسقطت المؤسسة الدينية منذ زمن طويل راية أبي ذر الغفاري لصالح راية السلطان , منذ ساهمت في اغتيال أبي ذر لصالح محدثي الثراء من بني أمية و لصالح أحقية السلطان المطلقة في نهب العباد و البلاد , بينما بقيت راية أبي ذر مرفوعة في شرقنا رغم أنف الطغاة و القتلة و الجلادين و أزلامهم , راية بابك الخرمي والشيخ الصوفي عبد الرحمن و أبي الدرداء , لم تسقط يوما من أيدي الفقراء , هذه الراية لا علاقة لها ببعض الطغاة المصابين بجنون العظمة الذين يريدون أن يحولوا المؤسسة الدينية ككل شيء في مجتمعاتنا إلى مجرد وظيفة لدائرة بيروقراطية تابعة لإحدى وزاراتهم , إن سخافات جنون العظمة الذي ينتاب هؤلاء الطغاة يجعلهم يعتقدون أنهم , بعد أن مارسوا دور الإله الأرضي لعقود وسط "تقديس" البيروقراطية بكل أصنافها و فئاتها الثقافية , الدينية و "العلمانية" , أنهم قادرون على ممارسة دور إله السماء الذي تحتكره المؤسسة الدينية حتى اليوم , و إن بإذن و إشراف و أمر المؤسسة المركزية في السلطة : رأس النظام و حاشيته , يريد البعض أن يروج لهذيانات بعض الطغاة ( كما فعل وزير الأوقاف التابع لزين العابدين مؤخرا ) على أنها علمانية , هذه "العلمانية" ليست إلا امتدادا لأصولية الأمس , أو أنها أصولية من نوع مختلف تستخدم لخدمة استبداد بعض الطغاة , من المؤكد أن هستيريا العداء للآخر ما تزال قوية و متأصلة و قادرة على إعادة تمثيل هيروشيما جديدة , لكن سجون الطغاة لن تكون أبدا من يحمي الفقراء أو أصحاب الفكر النقدي من جلادين متعطشين للدماء , في أمريكا كانت الحكومات "الديمقراطية" جدا للبيض القادمين من أوروبا هي من أرسلت الجيوش تلو الجيوش لتقتل الهنود الحمر بدم بارد حتى الاستئصال شبه الكامل لآخر هندي أحمر , و كانت الحكومات "الديمقراطية جدا" في أوروبا "المتحضرة" هي من أعطى ملايين الفقراء السلاح و الأوامر ليذبحوا بعضهم بعضا في حربين عالميتين تحت شعارات القومية التي فسرت حسب أهواء و مصالح الطبقات السائدة بكراهية الآخر حتى ذبحه الفعلي , ملايين البشر ذبحوا , في أغلب الأحوال , دون ثمن أو مقابل , بكبسة زر قضى مئات آلاف اليابانيين بيد "زعيمة العالم الحر", إن مجانين السلطة المطلقة و الذهب يسببون الموت أكثر مما يحققون من السلام للبشر , إن سجونهم تخلق أجيالا لا تنتهي من القتلة و من مبررات الكراهية و القتل , إن الحل الفعلي لما يمكن تسميته بقضية التكفير ليس في الالتجاء إلى سجون طغاة طالما اعتبروا تكفير و ذبح كل صوت حر و معارض و كأنه قدس أقداس النسخة السائدة من الحقيقة المطلقة , بل إنه في أوسع دمقرطة ممكنة لآليات اتخاذ القرارات باتجاه توزيع السلطة و الثروة على كل البشر دون أي اعتبار للدين أو الجنس أو اللون أو الطائفة , من يظن أن هذا سينتج استبدادا جديدا عليه أن يذكر جيدا أن الشيوخ و الملالي من كل الطوائف عندما تولوا السلطة كما في العراق مؤخرا لم يوزعوها على أفراد طوائفهم , على العكس تماما , فقد حافظوا على أقصى درجة من تمركز السلطة و الثروة بأيديهم و وزعوها فقط بالقدر الذي يحول الناس إلى خدم عندهم , إن نقل السلطة و إدارة الإنتاج و التوزيع إلى شبكة مؤسسات قاعدية مجالسية سيعني أن الجميع , بمن فيهم رجال الدين أيضا , سيشاركون في النشاط الاجتماعي و السياسي الجماعي كأفراد متساوين مع الآخرين , دون أن يمارس أي كان، وصاية على ضمائر الناس و وعيهم أو تفكيرهم الحر أو حريتهم في تسيير أمور حياتهم.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...