عن فكرة «خليفة الله» وبعض إشكالياتها المفاهيمية

02-08-2015

عن فكرة «خليفة الله» وبعض إشكالياتها المفاهيمية

يعثر القارئ لتاريخ الإسلام السياسي في الأدبيات الإسلاموية الراديكالية والأصولية منذ مطلع القرن العشرين وحتى الآن على نصوصٍ مطولة، تتفاوت في جودتها وعمقها وتحليليتها، تتحدث عن الخلافة الإسلامية ومنصب «خليفة الله» في تلك البنية السلطوية والحاكمية المعبرة عنها. كما أنَّ الأدبيات والنصوص السياسية والأيديولوجية، التي صدرت وتصدر عن الكيانات السياسية الحزبية والأهلية الإسلاموية (والتي تحمل في فكرها ورؤاها العملياتية وأجنداتها إرثاً فكرياً ودينياً من تربة الفكر الأصولي ذاته المذكور)، تشير بشكل موارب أو مباشر إلى مفهوم «خليفة الله» نفسه، وتتحدث عن الحاكمية باسم الله وخليفته على أنها التعبير الأكمل والأصح في الإسلام عن الرئاسة والحكم. واليوم، تجد فكرة الخلافة لله شعبية في الشارع الإسلامي العالمي عموماً، بالرغم من ترافق هذه الشعبية مع رفض موازٍ للعنف والإرهاب والوحشية والقهر والقسر باسم تلك الخلافة وتحقيقها.

لست مختصاً بعلوم الإسلام (وإن كنت مختصاً بالعلاقات الإسلامية المسيحية في العصر الإسلامي المبكر) كي أقدم هنا دراسة علمية تاريخية وهرمونطيقية مفصلة عن أصول مصطلح «خليفة الله». أود فقط أن أشارك القراء ببعض الأفكار التي شاركتها مع أصدقاء من العلماء في الدين الإسلامي والعلاقات الإسلامية- المسيحية (مسلمين من السنة والشيعة على حد سواء) في لقاءات حوارية علمية وأكاديمية شاركت بها في الغرب، تحدثنا فيها عن تلك المسألة من بين مسائل أخرى. سأقوم بتقديم تلك الأفكار على شكل ثلاث نقاط مختصرة ومباشرة وليست بأي شكل من الأشكال مسهبة ووافية لعدم إمكانية القيام بهذا الإسهاب في المساحة الضيقة، لمقالة قصيرة في صحيفة.

1- نعلم كباحثين أكاديميين في تاريخ الإسلام المبكر أن أقدم نص تاريخي نملكه بين أيدينا اليوم عن شخصية إسلامية تحدثت عن منصب «الخليفة»، ورأت أنه يمثل منصباً يلعب فيه الحاكم دور خليفة الله على الأرض، هو نص الرسالة، التي نعتقد أن الخليفة الأموي الوليد الثاني أرسلها باسمه إلى مدن الخلافة الرئيسية، يتحدث فيها عن آلية خلافته في الحكم. نعتقد أن الرسالة كتبت ما بين 25-26 للهجرة/ 743-744 للميلاد، والنص العربي الذي نملكه لتلك الرسالة موجود في مؤلف التاريخ لأبي جعفر محمد ابن جرير الطبري (المجلدين الثاني والسابع). يحاول الملك الوليد في تلك الرسالة أن يؤصِّل تاريخياً لخلافته بأن يشير إلى امتداد جذورها في تربة السلطة والحاكمية التي سبقته، والتي تعود تراجعياً إلى حكام أسرة بني سفيان، وقبلهم للخلفاء الراشدين وصولاً إلى النبي العربي محمد. إلا أن ما يميز حديث الوليد عن مسألة الخلافة في تلك الرسالة هو ربطه لها لا بالتسلسل التاريخي في إطار تداول السلطة ونقلها من جيل إلى آخر فقط، بل ربطها بمشيئة إلهية تسلسلية خلاصية تضع الخلفاء في مساواة لاهوتية ونبوية مع النبي محمد شخصياً وتفترض أنَّ خطة الله للبشر تنقسم إلى عهد أنبياء ورسل (يتجلى في النبي محمد) وعهد خلفاء وولاة، يتجلى بما يتحدث عنه الوليد في رسالته بصفته خليفة لله يعادل في موقعه وأهميته أمام الله الرسول الديني وخاتمة الأنبياء محمد. الخليفة هو الحاكم بأمر مباشر (غير تسلسلي ولا وسائطي) من الله وبتكليف مباشر يتجاوز سلطة ونبوية الرسول ولا يدين بحاكميته لتلك الرسولية ولا النبوية بالضرورة. أي أن الحاكم بصلته المباشرة بالمقدس هو «خليفة الله» على الأرض. يرفع الوليد بن عبد الملك في رسالته الحاكم الزمني إلى هذا المستوى اللاهوتي التقديسي والميتافيزيقي لأسباب تاريخية وسياسية وبراغماتية محضة، لها علاقة برغبته بتوريث السلطة لأبنائه وقطع الطريق أمام أي اعتراض على هذا الأمر (خصوصاً من قبل المتشيعين، المؤيدين لتسلسل الحاكمية عبر سلالة الرسول محمد والإمام علي بالتحديد) في الشارع الإسلامي.

من المهم جداً الاطلاع على تلك الخلفية التاريخية المحورية والهامة جداً لندرك أن مفهوم «خليفة الله» أو الحاكم بأمره هو على الأرض، فكرة تاريخية سياقية وظرفية، وليست دينية أو عقائدية بالدرجة الأولى. لا بل إنها فكرة توحي بتشكيك بمرجعية وأولوية ومركزية وسمو درجة الرسولية والنبوية، التي تعرِّف هوية وماهية ودور وموقع النبي العربي الكريم، محمد ابن عبد الله، بل تضع على التوازي معها منصباً وصفة أخرى مما يبدو أنه يتنافى مع روح القرآن وتعاليمه وتشديد الفكر الإسلامي على سمو وتسامي ومركزية الدور الوسيط الذي يلعبه موقع الرسول والنبي في علاقة المسلم بالمقدس، وفي تأريض رسالة الإسلام في صورة بنى مدنية وسياسية وسلطوية. مع أن الوليد يعترف أن الخلفاء اللاحقين لعصر الرسول يستقون إرثهم وامتداد حكمهم من حكم رسول الله ورسالته، إلا أنَّ الرسالة تؤكد أن دور «النبي»، من جهة، ودور «الخليفة» من جهة أخرى لا يرتبطان معاً بعلاقة تكافلية (symbiosis) أو خطية امتدادية، بل إنهما دوران متوازيان ومتعادلان في الأهمية والمركزية. ومن هنا نجد في تاريخ الفكر الإسلامي حديث عن «خليفة الله» وحديث آخر عن «خليفة رسول الله»، دون أن يكون هذين الحديثين بالضرورة مرتبطين، بل أحيانأً كثيرة متوازيين وربما متضادين. والسؤال هو ما إذا كان من المصيب إسلامياً تحويل الظرف التاريخي النسبوي والشخصي المتعلق بالوليد ابن عبد الملك إلى قاعدة فكرية ناظمة، ومرجعية تنسحب على طول تاريخ الإسلام، وتقرر ما يجب أن يكون. هل ظرفية الفكرة وأسباب طرحها تنضوي تحت إطار الثابت أم المتحول؟ سؤال جوهري يجب الفصل فيه قبل استخدام الفكرة وتسويقها وفرضها على أنها مبدأ وعقيدة.

2- نقطتي الثانية، عن «خليفة الله»، هي نقطة إصطلاحية تتعلق بما نسميه علمياً حقل السيميائيات والفيلولوجيا، أو علم أصول ومعاني ودلالات اللغة. لو فكرنا بمصطلح «خليفة» بحد ذاته لغوياً وسيميائياً سنلاحظ أنه مشتق من الجذر العربي «خلَفَ»، والتي تعني «أتى بعد» أو «حل محل» أو «أخذ مكان شيء/شخص آخر بعد زوال أو غياب هذا الأخير». كل تلك الدلالات السيميائية تجعل من مصطلح «خليفة الله» مصطلحاً إشكالياً وخطيراً وغير مقبول لا لاهوتياً ولا فقهياً ولا ميتافيزيقياً. القول بأنّ هناك خليفة لله يفيد مصطلحياً بأن هناك كائناً آخر (إلهياً أو غير إلهي، معادلاً لمن خلفه، أي معادل لله) قد حل محل الذي سبقه (أي محل الله في هذه الحالة) لأن من سبق الكائن الذي قام بعملية الخلافة لم يعد موجوداً أو لم يعد قادراً على القيام بمفردات موقعه. لاهوتياً وفقهياً، هذا المعنى خطير جداً ويناقض الفهم الديني للذات الإلهية التي تقول أنَّ الله أبدي أزلي، لا يخضع لمقياس «قبل-بعد» ولا يزول ولا يعجز عن شيء؛ ومن الكفر المبين استبداله بأي كيان أو بديل آخر، مقدس أو غير مقدس. حين نقول أن الحاكم الزمني هو «خليفة الله» فإننا نفترض مفاهيمياً وفيلولوجياً أنَّ هذا الأخير قد «حل محل» أو «خَلَفَ» الله ذاته (معاذ الله) وهذا أمر مستحيل على أي إله آخر، فكيف به بالنسبة للإنسان. حتى ولو قلنا أن هذا الخليفة يحل محل الله أو يأتي بعده في الزمان والمكان البشريين والتاريخيين الذين ينزه الله ذاته المتعالية عنهما، فهذا لا يحل مشكلة ما تشير إليه فكرة «الخلافة»، والتي تعني أن الله لم يعد موجوداً وأن هناك من حل محله. المصطلح إذاً بحد ذاته نفي صارخ وخطير للذات الإلهية ومحاولة فرض حالات تتابعية ومتوالية وتسلسلية على تلك الذات، الأمر الذي ترفضه الأديان السماوية بالمطلق. قبل استخدام فكرة «خلافة» علينا أن نتأكد أنها لا تتعارض مع إيماننا ولاهوتنا عن الذات الإلهية بحد ذاتها.

3- أما النقطة الثالثة، التي أريد مشاركتها هنا، فهي: يقرُّ أصدقائي الباحثون المسلمون الأعزاء بخطورة الدلالات التي أشرت إليها في النقطة السابقة. ويفترض بعضهم بأنه يمكن تجنب العثرات اللاهوتية الفظيعة التي تنتج عن قرن عملية «الخَلف» (الحلول محل أو المجيء بعد) بالله ذاته من خلال الحديث عن «خليفة رسول الله» بدلاً عن «خليفة الله»، فهذا برأيهم يقرن عملية الخلافة أو «الحلول محل/المجيء بعد» بالنبي محمد وليس بالله (حاشا له أن يزول أو أن يكون خاضعاً لقبل وبعد). لا شك بأنَّ هذا الاقتراح مثير جداً للاهتمام ولا يخلو من ذكاء وفطنة. إلا أنَّ سؤالي الذي أسره لأصدقائي الباحثين عندها هو: ولكن ألا يتعارض هذا المصطلح الجديد مع مبدأ أن الرسول الكريم هو خاتم الأنبياء والرسل، أي أن لا أحد سيأتي بعده ليحل محله أو يخلفه كرسول وكنبي؟ أليست نبوة النبي الكريم (الإسلام) هي خاتمة النبوات واكتمال لكل الرسائل: كيف تنطبق عليها اصطلاحياً فكرة الخلافة؟ هل من يخلف رسول الله ونبيه (سلام الله وصلواته عليه) يخلفه في ما يعرِّف النبي محمد بالدرجة الأولى والأخيرة: رسول الله ونبيه إلى العالمين؟ هل هناك خلافة في النبوة والرسولية في الإسلام؟ يدرك أصدقائي أن القول بمثل تلك الخلافة يتعارض مع الإيمان الحنيف بمبدأ «خاتمة الأنبياء والرسل». مفهوم «خَتَمَ» لا ينسجم فيلولوجياً ومفاهيمياً ودلالات مع مفهوم «خَلَفَ».

أعود للقول أنني لست مختصاً في الفكر الإسلامي ولا أدعي أبداً المرجعية فيه، بل أفوز بالجلوس بتواضع واحترام شديد مع أصدقائي وزملائي الباحثين المسلمين دوماً ومشاركتهم بأفكاري كي أتعلم منهم. ما نخرج به معاً من مشاركتي لهم بتلك النقاط هو إجماعنا معاً على الإشكاليات الفكرية والفقهية والمفاهيمية العديدة التي تحيط بمصطلح «خليفة الله» أو حتى مصطلح «خليفة رسول الله». ندرك معاً أن على الفكر الديني التفسيري للإيمان والتسليم بالله الذي يمثله الإسلام أن يواجه تلك الأسئلة والإشكاليات الحقيقية ويتعامل معها بشجاعة وانفتاح وثقة مطلقة بعمق وأصالة الإيمان الإسلامي وعدم اهتزازه أبداً إذا ما تعرض تفسير هذا الإيمان واجتهادات الفقهاء التاريخية لشرحه للأسئلة وإعادة النظر والتقييم والتقويم. لا خلاص لأي دين، بما فيه الإسلام، من المفاهيم الشعبية والأفكار التدينية العامة التي يرددها الشارع الديني العام (دون أن يدرك خطرها وأخطاءها الفادحة)، ولا خلاص لأي دين من التوظيف العنفي والإرهابي والتكفيري والوحشي والظلامي لرسالته (والذي نراه في أجسام متطرفة وحشية وعنيفة تقتل النفس البشرية وتقمعها وتحتقر كرامة خليقة الله ، الإنسان، باسم «خلافة لله» أو «خلافة للرسول») إلا من خلال التحلي بشجاعة المؤمن الحقيقي بالنقد وإعمال العقل والعلم والتساؤل في ما يسوقه الناس ويرتكبون باسمه أفظع الجرائم والأخطاء. هناك الكثير من الأخطاء والمطبات الفادحة والعميقة في مصطلحي «خليفة الله» و»خليفة رسول الله» تهدد جوهر ولب رسالة الإيمان الإسلامي قبل أن تهدد وجود أتباع الأديان الأخرى. هل نعمل معاً كأبناء نفس الكيان البشري وكأخوة في الإيمان بالله الواحد، جل جلاله، على التفكير بها وموجهة المضاعفات الفادحة والتدميرية التي تتركها على حياتنا معاً في قلب العالم العربي الغارق في بحر من الدماء والموت والدمار باسم السلطة والخلافات؟

نجيب جورج عوض

نوافذ

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...