سينما الحب في سيرة فيلليني الذاتية

22-01-2011

سينما الحب في سيرة فيلليني الذاتية

لقد بدأ العديد من النقاد في العالم يلصقون (الفيللينية) على تلك الأفلام التي تحتشد فيها تفاصيل فنية عالية ورؤية أقرب إلى المستحيل ومع ذلك فقد تم إنجازها..

لكن فيدريكو فيلليني يواجه الأحلام بكل جرأة في سيرته الذاتية تلك التي لطالما آمن بها على أنها الحقيقة الوحيدة التي يجب الاعتماد عليها كمخرج سينمائي يشق طريقه بخطى واثقة وهو شخصياً ينهل من هواماته وخياله الفني كمبدع لأفكار جديدة تصلح للأفلام القادمة حتى أنه كما يصرح في سيرته الذاتية لطالما يتخيل صورة مسبقة عن فيلمه القادم ويحاول تطبيقها على أرض الواقع.. ‏

يقف في لحظات سكونه المقدسة ويتساءل ماذا لو استنفد الخيال ذاته ومات العقل المبدع الباطني لقد طرح هذا التساؤل أكثر من مرة في حياته، وماذا سيكون شكل الحل؟ أثناء هذا الكشف الذي ليس بالضرورة أن تعي له نفس الفنان لكن فيلليني يفعل وقد حدث أكثر من مرة في حياة المخرج السينمائي الكبير والذي اتسم هذه المرة بشكل السيرة الذاتية يقع أمام أزمة الكلام وجهاً لوجه والتي لا يراها تتناسب مع مستوى هذا الكشف بصرياً على الأقل، فهو يحتفظ بقائمة مفردات سينمائية مزدهرة ويقول: (إذا أردت أن تعرفني جيداً عليك أن تعرف أفلامي حتى لو كنت قد أمضيت عطلة الأسبوع مع فيديريكو ويتابع المخرج الجيد يشترط في البدء بيئة مؤاتية للعمل، كادراً تقنياً على مستوى عال، ممثلين مؤهلين قادرين على تحديات المشاهد الصعبة، أما فيلليني فلا يستطيع القيام بتلك المهام جميعها دون أن يشترط وجود المشاعر الطيبة على الأقل قد لا يشعر بالحب تجاه أحدهم من طاقم العمل لكنه يتقبله بحسن نية خاصةً إذا كانت له شخصية قوية ..، ويتابع أنا مستعد لتقبل (السيدة الملتحية) أيضاً إذ إن أية علاقة هي في الواقع خير من عدمها السيدة نفسها كانت من وحي السيرك الأول الذي قصده مع العائلة في طفولته المبكرة، حيث شعر أن حضوره في هذا المكان متوقع لسبب ما لا حقاً سيكتشف أنه متوقع على مستوى فني لا واعي أيضاً، لم يعرف الطفل فيلليني إذا ما كانت هذه المخلوقات حيوانات أم أشباح وعلى عكس الأطفال الموجودين لم يكن يضحك البتة، لكنه يتأكد فيما بعد بأن السيرك يحتاج إلى عائلة صغيرة ليبدأ. ‏

في الحلم الذي صار واقعه الخاص أعاد اكتشاف أرضه الخاصة مبتكراً كولومبوس آخر في فيلم (المقابلة) عن رواية الكاتب المعروف (فرانز كافكا) والتي تتناول بتفاصيل مشوقة آنذاك عن نيويورك القرن العشرين وشروع المدينة في اتخاذ آفاق معمارية وسيكولوجية مختلفة. ‏

من جهة أخرى أدرك فيلليني الطفل الذي عاش في بيئة محافظة ثم عانى من الوحدة أهمية أن يشعر أي إنسان بالراحة المطلقة مع والديه وأفراد أسرته وأن يشعر من الأعماق بجو الأسرة الحميم. ‏

وفي سيرك السينما كان فيلليني قادراً على خلق مناخ صالح للحب عموماً بين العاملين في ورق توزيع الكوتشينة والمهرجين الأقزام والرجل الطويل ضمن خيمة منصوبة بسقف عال تحتمل هذا الشغف والعلاقات الدافئة بعيداً كل البعد النفسي عن مدن الإسفلت وحضارة الاستهلاك والثياب الموحدة تقريباً في دوائر المؤسسات الرسمية والشركات العالمية خارج الخيمة، وفي واقعه الحالم يصنع فيلليني بطريقته متحدياً كل النقاد آنذاك وتحديداً النقد الذي يوجه له بارتجال ودون اكتراث كما يذكر في فصل من فصول سيرته. ‏

فهو لم يتعلم إرضاء الآخرين والأهم عنده إرضاء أرق حلمه فقط فبرأيه إذا صنعت فيلماً كي ترضي مجموعة بعينها دون سواها فإنك بالتالي لا ترضي أحداً وهذا بالضبط ما استفز طاقاته على الدوام كمخرج أصبح أسطورة. ‏

فكرة العجز المهني هي في الواقع كابوس المبدع المشتغل في حقل السينما والمسرح والفنون البصرية المختلفة، كما لو كنت تتوقف عن سماع صوت الخيول التي تدب في رأسك ليلاً دون مبرر واقعي وفي أوج التفكير بشكل الفرجة المتخيل، الفراغ الذي يعيشه الفنان يشبه المرض الخبيث لا تشعر به وهو يتسلل بهدوء لكنك ستعترف في آخر المطاف أنك عاجز ويوم لا عمل فيه هو يوم ضائع بالتأكيد. ‏

لقد حلم فيدريكو فيلليني ذات ليلة كما يذكر في سيرته الذاتية أنه وأثناء قيامه بإخراج فيلم ما يصرخ وإذ بصوته لا يهدر في الاستديو حيث كان بقية طاقم العمل بغاية السكون لا يتحركون ولا يقومون بأعمالهم المعتادة لكن يذكر أن الحلم غدره في أكثر من مرة الحلم الذي يشبهه فيلليني بالبحيرة الهادئة التي تحولت فجأةً إلى جرس ضخم كأجراس الكاتدرائيات العريقة في روما يدق في أذنيه على الدوام، صار يجيء إلى موقع التصوير ومعه خطة واضحة وشديدة الدقة لكنه يضع بعد قليل كل ذلك جانباً ويشرع في العمل. ‏

الطاقة الجيدة والحساسية بتفاصيل الصورة السينمائية أمر جوهري لكل مخرج كما يقول فيلليني أن لا يسعفك جسدك هذه هي الضربة القاضية وهذا ماعاشه المخرج العالمي وأغنى السينما بمفرداته الغريبة لكن ثمة سؤال يطرحه مثل هذه المكاشفات التي تأتي من مخرج كفيدريكو فيلليني هل توقفت السينما العربية حين مات عقلها الباطن منذ زمن بعيد أم توقفت حين لم يستطع المخرج من اختلاق خيمة الحب الذي صنعها فيلليني كعائلة واحدة تتحمل مسؤولية تسيير أمورها وربما بدأ هذا الشرخ جلياً حين بدأ كل فرد في طاقم العمل يصنع فيلمه السري عوضاً من أن يصنعوا سينما الحب مرة أخرى ... ‏

كندة السوادي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...