حنا مينه: عذاب البداية والنهاية في الرواية

19-02-2011

حنا مينه: عذاب البداية والنهاية في الرواية

في رأي بعض الباحثين، عند الكلام على «الأدب والعلوم الإنسانية»: إن الصورة الفنية متعددة الحدود، متعددة المعاني، ليس لها تحديد دقيق، واحد حاسم، يمكن قياسه بعدد، والتعبير عنه بصيغة لكن هذا لا يعني أن الفن هو مملكة المصادفة والذاتية.

ويقول ا.م. فوستر نقلاً عن كتاب «بناء الرواية» لأدوين موير ترجمة ابراهيم الصيرفي يقول: لا أرى داعياً لارتباط الرواية بوجهة نظر واحدة، حسب الروائي أن يثب بنا إلى الاقتناع بشخصياته، وأن يقدم لنا الحياة.. لأن الحياة تعطينا الرواية. ‏

لكن كيف نقدم الحياة التي تعطينا الرواية؟ بالمصادفة؟ لا! بالذاتية الأدبية؟ لا! بتعدد وجهات النظر، من حيث الموضوع، في الرواية الواحدة؟ لا أيضاً! قد تكون الصورة الفنية متعددة الحدود، متعددة المعاني، هذا صحيح، إلا أن علينا، عند كتابة الرواية، أن نلملم هذه الحدود التي فلشناها في البداية، عندما نصل إلى النهاية وأن نعرف كيف نضم المعاني المتعددة، لا بمعنى واحد، بل بدلالة هذه المعاني كلها أي بما تريد الرواية إن تقوله وهذا يقتضي في حدود رأيي التخطيط المسبق للعمل، كيلا نتوه، في تطور سياق الرواية، بين المعاني المتعددة نفسها، فنهمل معنى، في منتصف العمل ونتابع الشغل على غيره أو بتعبير آخر، أن نهمل هذه الشخصية وندعها مبتورة ونواصل رسم الشخصيات الأخرى على حسابها. ‏

الحياة تعطي الرواية، هذا لا خلاف عليه، لكن السؤال يبقى: كيف نصنع، من هذا الذي أعطتنا إياه الحياة رواية تعود بدورها فتعطينا حياة أخرى، الفن لا يأخذ الأشياء جاهزة، وحتى العالم من حولنا لا بد من تفكيكه، هدمه، وبناء عالم آخر على أنقاضه، هو العالم الفني الذي يبدعه الفنان، وفي عملية الهدم وإعادة البناء، لا بد أن نحذر العشوائية، وأن نسير على هدى لا بمعنى اخضاع كل شيء لإرادتنا، بل بمعنى عدم خروج كل شيء عن إرادة الذات الإبداعية، التي هي في المآل إرادتنا نحن الذين نصوغ حياة من حياة، حياة فنية من الحياة الواقعية، التي تعطي الرواية، وكل الأجناس الأدبية والفنية، مقوماتها الأولية، وبدقة: خاماتها! ‏

بالنسبة لي، وكما أوضحت في المقال السابق، أميل إلى التخطيط المسبق للرواية، إلى الوضوح غير المسطح، كيلا يكون الغموض، أو الابهام، تعمية باسم الحداثة أو غيرها، وقد قال الناقد الكبير المرحوم علي الراعي، في مقالة بعنوان «الناقد والمبدع» مايلي: علينا أن نحذر أن يتحول الغموض الطبيعي إلى إغماض متعمد, وعلينا- بصدد هذا الغموض الطبيعي- أن نطلب إلى المبدع أن يطلق عليه بعضاً من النور، يعين على فهم هذا الغموض، فتقر أرواحنا وافهامنا حينما نتبين أن الغموض له وظيفة محددة تخدم العمل، وليس حذلقة فكرية تزعم وجود عمق غير موجود، وتغطى على خواء لا يمكن اخفاؤه، مهما أمعن الكاتب في المحاولة». ‏

لا وضوح مطلقاً ولا غموض مطلقاً وهذه المعادلة يمكن بلوغها إذا كنا قد درسنا جيداً طبيعة العمل، وتفهمنا قوله، وعرفنا ماهيته، وأدركنا ضرورة تصوره، في مبادئه الأولى تصوراً يعيننا على إنماء السياق في بناء النص والشخص إنماءً سليماً إن تصور الحدث الروائي، يبدأ من اللحظة التي اخترنا فيها هذا الحدث، أو فرض نفسه علينا، بعد استيقاظه من هجوعه في بئر الذات، ويكون علينا عندئذ، أن نستعيد تجربته، ونفكر بالبيئة التي نبتت فيها هذه التجربة، والدوافع التي أدت إليها، والمساحة التي تشغلها، الأسئلة التي تطرحها، والقول المراد من خلال كل ذلك، بدلالة الحدث، سرداً وحواراً. ‏

شخصيات الرواية، هي أيضاً موضع اهتمامي بدءاً بأسماء هذه الشخصيات، فلكل فئة ولكل بيئة أسماء شبه مطلوبة، شبه ضرورية وانتقاء هذه الأسماء، كي تتلاءم مع أدوارها في الرواية، عملية ليست سهلة ليست اعتباطية، فللبحر أسماء، وللبر أسماء، وللحارة الشعبية أسماء، وللحي الراقي، الثري، أسماء وما كان ملائماً في روايتي «حارة الشحادين» من أسماء هو غير أسماء الشخوص في روايتي «الولاعة» ثم لماذا هذه الشخوص كذلك وليست غير ذلك، وكثيراً ما يستغرقني التفكير بهذه الأمور، ويشغلني عن كل ما حولي، حتى إنني أمر بالناس، أحياناً، فلا أراهم وإذا رأيتهم قد يفوتني إلقاء التحية عليهم وهذا ما يسبب لي حرجاً غير قليل، ويسبب لي حرجاً أكبر نسيان أسماء ووجوه من ألقاهم، لضعف ذاكرتي في هذا المجال، بينما هي قوية في مجال آخر، وانتقاء الأسماء ونسيانها وعصر الدماغ لتذكرها هو العذاب الأول، يليه عذاب آخر، هو الحوار غير المكتوب، بيني وبين شخصيات الحدث، وطرحي الأسئلة عليهم، وتلقي أجوبتهم، والاقتناع الذي لا عودة عنه، ان الأسئلة في موضعها، نابعة من الحدث، وأن الأجوبة في موضعها، ونابعة من الحدث كذلك، وبعد ذلك أو قبله التخطيط الذهني لمعمار الرواية، وكيف تكون البداية؟ وهل هذه البداية صالحة؟ وما مدى التشويق فيها والشأن ذاته، بل وأصعب، في الخاتمة والمدى المتخيل فيها، وهل هي مغلقة أم مفتوحة وهل السياق انسيابي، طولاني، أفقي، دائري، أم مرسل؟ وهل الزمن مستقيم أم مكسور؟ وإلى أي حد هو مكسور ولماذا؟ وكيف كان تقطيعه، بالنسبة لأزمنة الرواية؟ وما هو البعد الماضي، والحاضر، والمستقبل في المسيل الزمني؟ وهل الحوار بلسان الغائب وكيف يمكن الانتقال به من الغائب إلى المتكلم؟ وكيف تتم النقلة، بين المشاهد والفصول، دون أن يحس القارئ بأنني نقلته؟ وهل هناك ضرورة ليكون الكلام على لسان الراوي أم لساني أنا المتكلم؟ ‏

بعد هذا كله يأتي دور العمل، وأصعب ما فيه، كما أشرت سابقاً، البداية، لا من حيث الإيقاع والتشويق فحسب، وإنما من ناحية تمديد الخطوط، في كل الاتجاهات والمعرفة شبه المسبقة، بكيفية لملمتها، وصولاً إلى الحل الأنسب، أو الحل الأروع كما أفكر دون أن أدرك المبتغى في كثير من الحالات، والعديد من الروايات، وهذا ما يسبب لي قلقاً، يتصاعد حتى يمسي توتراً، وفي هذه الحال علي أن أترك الكتابة، أن أستريح، أن أفكر بهدوء، في انزياح تام عن أجواء ما كتبت، أو ما كنت أريد أن أكتب! ‏

هذا يصيبني بالإعياء، فالعمل والتفكير فيه، ومن خلاله يؤدي إلى نقص السكر في الجسم، وأعرف ذلك من الدوخان، ومن تحبحب العرق البارد على جبيني، فانهض مسرعاً لأتناول ما يعوض النقص السكري، وأذهب فأتمدد على سريري، مستشعراً نبضات قلبي تطن في أذني.. فيا للكتابة من مهنة شاقة!. ‏

حنا مينه

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...