حجّة الإسلام الذي كفّر الفلاسفة فأسرته أفكارهم

25-06-2011

حجّة الإسلام الذي كفّر الفلاسفة فأسرته أفكارهم

تمرّ بنا هذا العام الذكرى المئوية التاسعة لوفاة أبي حامد الغزالي (1059/1111 م)، وتنتظم في عدد من البلدان ندوات ومؤتمرات، للبحث في ما تركه لنا هذا المفكّر، الذي عرف بموقفه المعارض للفلاسفة، لـ"شمول وصمة الكفر كافتهم" بحسب تعبيره.

 وإذا كان البعض يرى أنّ هذا الموقف لا يخص الفلسفة وإنما الفلاسفة، فإنّ ما يقوله الغزالي نفسه يدحض هذا الرأي، فهو يكتب "ابتدأت بعد الفراغ من علم الكلام بعلم الفلسفة…حتى اطلعت على ما فيه من خداع وتلبيس" الغزالي، المنقذ من الضلال، فنحن معه إزاء تكفير صريح للفلسفة والمشتغلين بها سواء بسواء.
 
 قسم الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال، الذي كتبه في آخر سني حياته الفلاسفة إلى ثلاثة أصناف : دهريون وطبيعيون وإلهيون، ولم يستثن أيّ صنف منهم من التكفير، فهم برأيه زنادقة لجحدهم الله وتأكيدهم أن العالم يحمل أسباب وجوده في ذاته (الدهريون)، وإنكارهم وجود الآخرة، فالطبيعة لا يصيبها الفناء، فهي خالدة أبدا (الطبيعيون)، وتقليدهم لبعضهم البعض، مما جعل الصنف الثالث منهم (الإلهيون) ينسج على منوال الصنفين السابقين في النظر إلى عدد من المسائل، مثل نفي حشر الأجساد، وإنكار علم الله للجزئيات والقول بقدم العالم .
 
ومن بين ما نقده الغزالي في خطاب الفلاسفة قولهم بالسببية، فقد أنكر الارتباط الضروري بين الأسباب والمسببات، لكي يفتح المجال أمام القول بالمعجزات مثل قلب العصا ثعبانا، وإحياء الموتى، فـ"في المقدور خلق الشبع دون الأكل، وخلق الموت دون جز الرقبة، وإدامة الحياة مع جز الرقبة" الغزالي، تهافت الفلاسفة.
 
وفضلا عن هذا مؤاخذته الفلاسفة لاستهانتهم بالطقوس والعبادات، فقد "رفضوا وظائف الإسلام من العبادات، واستحقروا شعائر الدين من وظائف الصلوات، والتوقي من المحظورات، واستهانوا بتعبدات الشرع وحدوده، ولم يقفوا عند توقيفاته وقيوده، بل خلعوا بالكلية ربقة الدين" الغزالي، تهافت الفلاسفة .
 
ويستهجن الغزالي مواقف الفلاسفة الذين يصفهم بأقبح النعوت فهم "شرذمة يسيرة من ذوي العقول المنكوسة والآراء المعكوسة…لا يعدون إلا من زمرة الشياطين الأشرار" تهافت الفلاسفة. غير أن الاطلاع على ما كتب يجعلنا نخلص إلى أنه لم يقرأ إلا النزر القليل من مؤلفاتهم، من ذلك جهله كتب فلاسفة اليونان، واكتفاؤه بما نقله عنهم الفارابي وابن سينا، وهو ما يعترف به قائلا : "إنا مقتصرون على ردّ مذاهبهم بحسب نقل هذين الرجلين" .
 
ومثلما هو بيّن فإنّ نقطة الارتكاز في حرب الغزالي على الفلاسفة هي تكفيرهم من جهة إيمانية، أي إنّ الأمر يتعلق لا بنظر عقليّ برهانيّ في الفلسفة وإنما بمعركة إيديولوجية ضدّها، والغزالي لا يخفي ذلك، لهذا نراه يستعدي سائر الفرق الدينية ضد الفلاسفة، داعيا الجميع إلى الاتحاد ضدهم، وهو ما يفصح عنه بقوله إنه يريد "جعل جميع الفرق إلبا واحدا عليهم، فإن سائر الفرق ربما خالفونا في التفصيل، وهؤلاء يتعرضون لأصول الدين، فلنتظاهر عليهم فعند الشدائد تذهب الأحقاد" تهافت الفلاسفة.
 
وعلى هذا النحو فإن نقده للفلاسفة لم يتم من موقع الفلسفة كما يصوّر بعضهم ذلك وأنه كان فيلسوفا من طراز خاص، وإنما تم ذلك النقد من موقع إيماني على وجه التحديد، فكتاباته السجالية التي واجه فيها الفلاسفة، تحمل في أغلبها خلفية كلامية وصوفية .
 
وقد أراد لهذه المواجهة أن تكون شاملة، وبالتالي عدم التنازل أمام الفلسفة قيد أنملة، فهذه إستراتيجيته المعلنة، فحتى على مستوى المفاهيم الفلسفية المستعملة في المنطق مثلا نراه يفاضل بين ما جاء به الفلاسفة، وما يشتمل عليه السجل الديني، فيحاول جاهدا إيجاد بدائل مفهومية مناسبة، فهو عندما يأخذ عن الفلاسفة هذه العدة المعرفية أو تلك، فإنه يحرص على القول إن ذلك يتم ضمن حدود الحرب عليهم، فهو يريد افتكاك سلاح الفلاسفة وتوجيهه نحوهم.
 
ولكنه خلال معركته مع الفلسفة كان محكوما بأمر يعرفه المتقاتلون في الحروب، فعندما تعتمد سلاح الخصم وتكثر من استعماله قد تصبح أسيرا له، ولا يمكنك بعد ذلك التخلي عنه، لهذا الاعتبار يقول عنه المتكلم أبو بكر بن العربي : "شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة، ثم حاول أن يتقيأهم فما استطاع"، وهي الشهادة ذاتها التي نجدها لدى ابن تيمية القائل : "شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة، ثم أراد ان يخرج منها فما استطاع"، ربما لسوء حظه وحسن حظ الفلسفة.
 
 لقد عبّر تكفير الغزالي للفلاسفة عن لحظة أزمة وزمن عاصف وفترة انحطاط، لذلك كان خطابه متجها إلى الخلف، إلى الماضي لا إلى المستقبل، فمثل بذلك مشروعا متماهيا مع مجتمع مأزوم، لم تثبت بعد أقدامه على أرض راسخة، فكان هو نفسه خطابا متلعثما مترددا، يخبط خبط عشواء، يضع قدمه على أرض ولا يلبث أن يغادرها إلى أرض أخرى، دون أن يجد حتى الوقت لتبيان سبب المغادرة.
 
ففي زمن العواصف والمنعطفات التاريخية يطرح بإلحاح سؤال أين نحن؟ وإلى أين نسير؟ ويُيمم الناس وجوههم شطر الماضي أو شطر المستقبل، والأسهل احتماؤهم بموروث الأجداد، وتقمص دور الأبطال القدامى في الذبّ على عقائدهم ومؤسساتهم، وهذا بالضبط ما قام به الغزالي، فهو مثقف تقليديّ جعل الأموات يمسكون بقوّة بتلابيب الأحياء، من أجل خدمة غرض سياسي غير خفيّ، مما يسمح لنا باستنتاج أن تكفير الفلاسفة لديه تم لأجل ذلك الغرض بالذات .
 
وبالتالي فإن ذلك الخطاب هو ابن مكانه وزمانه، فقد ولد وترعرع في زمن عاصف، تتطايرت فيه رؤوس الأمراء، وانتشرت فيه الانتفاضات والحروب ودخل فيه المجتمع في نفق مظلم، فقد كان الغزالي يحاول رئيسيا إنقاذ الموجود غاضا الطرف عن المنشود، حتى أنه لا يلتفت إلى التحديات الواقعية التي واجهت العرب في وقته، مثل الغزوات الأوربية التي طالت القدس ذاتها، فقد ألزم نفسه تجاهها بسكوت أهل القبور .
 
و إذا أردنا مقارنة هذا الوضع، تطلب الأمر العودة إلى حالتين تشغلان موقع النقيض منه، ونعني الحالة العباسية في طورها الأول، والحالة الأندلسية زمن ازدهارها، فقد كان للفلسفة خلالهما مقام آخر .
 
وبالتالي فإن قراءتنا لموقف الغزالي من الفلسفة، يوجد في القلب منها استنطاق تلك العلاقة بينه وبين زمانه ومكانه، فقد كان من السهل على مفكر مثله مسايرة السلطان السياسي، ومداراة العوام، أملا في ديمومة الحال كما يقال، ولكن ذلك من المحال، فالدولة التي دافع عنها وحاول تبرير سلطانها تهاوت أركانها، وفضلا عن هذا فقد فشلت عربيا محاولته قبر الفلسفة، فبعد أقل من قرن جاء الردّ على ما كتب عاصفا ومدويا، ونعني ما تضمنه كتاب ابن رشد تهافت التهافت.
 

 ومن المهم التنبيه هنا إلى أن القول الفلسفي قد تغذّى باستمرار من الحملات التي يشنها أعداؤه عليه، وكثيرا ما عمل على هضمها وتجاوزها بأقل الأضرار، بل إنه أوقع هؤلاء في الاضطراب، فجعلهم يربطون في موضع ويحلون في موضع آخر، مثلما كان حال الغزالي على حد عبارة ابن طفيل.

 

وقد تفطن الطرطوشي إلى هذا الجانب في شخصية الغزالي، فكتب بخصوصه في إحدى رسائله : "اجتمع فيه العقل والفهم، ومارسَ العلومَ طولَ عُمُرِه، وكان على ذلك معظم زمانه، ثم بدا له عن طريق العلماء، ودخل في غِمار العمَّال، ثم تصوَّف، وهجر العلومَ وأهلَها، ودخل في علوم الخواطر وأرباب القلوب ووساوس الشيطان، ثم شابها بآراء الفلاسفة، ورموز الحلاَّج، وجعل يطعن على الفقهاء والمتكلمين، ولقد كاد ان ينسلخ من الدين، فلمَّا عمل الإحياء عمَد يتكلم في علوم الأحوال ومرامز الصوفية… فسقط على أمِّ رأسه".

 
 لقد كان موقف الغزالي تجاه للفلاسفة متدثرا بجلباب الدفاع عن عقيدة السلف، الذي اعتبره حجة الاسلام في مسايرة واضحة لمكانه وزمانه الحجة الدامغة، إذ كانت مهمته إعادة إنتاج ما جاء به ذلك السلف وإخراجه في ثوب جديد، بمعنى أنه لم يكن مجددا بقدر ما كان متمسكا بـ"زجاجة التقليد" على هذا المستوى الذي نعرض له، ونعنى الموقف من الفلسفة، أي إنه كان يكرر الموضوعات المتداولة في تكفير الفلسفة، والتي ترجع إلى زمن الكندي، الذي واجه التشنيع على الفلاسفة العرب الأوائل لأنهم يأتون بالمستورد والدخيل، بالقول بوجوب الأخذ عن الأمم الأخرى إذ " ينبغي لنا أن لا نستحيي من استحسان الحق من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية عنا والأمم المباينة لنا، فإنه لا شيء أولى بطلب الحق من الحق" رسائل الكندي الفلسفية، وهو ما سيتردد صداه بعد ذلك لدى ابن رشد في فصل المقال، من خلال الدعوة إلى الاستعانة "على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك، سواء كان مشاركا لنا أو غير مشارك في الملة" شرط توفر سلطة البرهان فيه.
 

إن هذا الميسم الذي طبع موقف الغزالي تجاه الفلاسفة دفع بالبعض إلى تحميله مسؤولية الانحطاط الفكري الذي ساد بعده، غير أنه لا ينبغي تحميله وحده مسؤولية ذلك الانحدار، فالفلسفة خبا نسغها، وتوارى أصحابها عن الأنظار، ربما لعدم القدرة على مواجهة عاصفة ارتداد كبرى، انطوى خلالها الناس على الذات، وراحوا يكفرون الأفكار، التي لا تتواءم مع ما جاء به "السلــــف الصالح".
 
إننا لا نحمّل الغزالي وحده المسؤولية عما انتشر في زمانه و بعده، وخاصة في المشرق العربي، من سيادة الكلام والتصوف، وانطفاء مشعل الفلسفة، ونعتبره علة همود حضاري، ظلت خلاله النظم الفكرية والممارسات العملية تقليدية في جوهرها، دون تغيير يذكر، وإنما يتحمل المسؤولية أيضا وربما بشكل رئيسي الخط العقلاني في الثقافة العربية، الذي كان من الضعف على نحو لم يستطع معه مواصلة مسيرة العقلنة، بمعنى إننا لا نبتغي هنا اختزال ذلك الهمود في أحد طرفي التناقض الرئيسي في الثقافة العربية، وإنما نود النظر إلي الصراع التاريخي بينهما من موقع تفاعلهما الديالكتيكي. وهذا الذي نقوله لا يجب أن نتجاهل فيه أن الأمر يخضع لعوامل موضوعية وذاتية متشابكة، فقد كان من السهل المسايرة ومن الصعب المعارضة.
 
 لقد خضع تكفير الغزالي للفلسفة إلى محاكمة فلسفية شهيرة، كان القاضي فيها ابن رشد الذي اعتبر أن الغزالي قد أضر كثيرا بالعلم والحكمة من خلال تشكيكاته الخبيثة، ومغالطاته السفسطائية، فـ"المذاهب في العالم ليست تتباعد كل التباعد حتى يكفر بعضها، و لا يكفر ." ابن رشد، فصل المقال . وهذا القول لا يختلف كثيرا عما قاله سلفه الكندي السابق للغزالي وهو الذي كشف أن العداء للفلسفة المغلف بالدين مصدره تجارة رابحة فهؤلاء الذين يقومون بذلك "ذبّا عن كراسيهم المزوّرة التي نصبوها عن غير استحقاق، بل للترؤس والتجارة بالدين وهم عُدماء الدين، لأن من اتّجر بشيء باعه، ومن باع شيئا لم يكن له، فمن اتجر بالدين لم يكن له دين، ويحق أن يتعرى من الدين من عاند قنية علم الأشياء بحقائقها، وسماها كفرا".
 
وفضلا عن هذا كشف فيلسوف قرطبة عن المخفي في عداء حجة الإسلام للفلسفة فــهو"لم يكن يطلب الحق وإنما أراد مداهنة أهل زمانه" ابن رشد، تهافت التهافت، مستخلصا وجوب التفلسف، مستحثا أهل النظر على الإقبال على كتب الفلاسفة، منبها إلى أن "مثل من يمنع النظر في كتب الحكمة من هو أهل لها من أجل أن قوما من أراذل الناس قد يظن بهم أنهم ضلوا من قبل نظرهم فيها، مثل من منع العطاشى من شرب الماء البارد، حتى ماتوا من العطش، لأن قوما شرقوا به فماتوا" ابن رشد، فصل المقال.

فريد العليبي

المصدر: الأوان

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...