"بنت العطفة" المذبح الذي يتساقط حوله الرجال

27-05-2006

"بنت العطفة" المذبح الذي يتساقط حوله الرجال

                                                                                      لينا هويان الحسن 

الجمل - البدو .. من يعرفهم
لكل شيء في مجتمعهم المتطرف ..مذاق الحتف..
أتقنتُ الدهشة عندما سمعت لأول مرة عن فتاة اسمها "خود" تخوض المعارك على طريقتها..
تمتطى فرساً دهماء وتحمل بيدها "مُغرة"(1) حمراء ... وتجوس مؤخرة الجيش وببصر ثاقب .. متفرس.. تتفحص آفاق المعركة وتتربص بكل الفارين .. أو من يتأهبون للفرار خوفاً من الموت.. فكانت تلاحق الفرسان المنهزمين وتعمد إلى طبع آقفيتهم بالمًُغرة الحمراء وبعار لاينتهي إلا مع الموت ..
قسوة رائعة ومدهشة ، متطرفة مارستها الفتاة "خود" على رجال عشيرتها " عرب الولدة" وظلت "خود" شهيرة لعدة سنوات وفي معارك وغزوات عديدة خاضتها مع فرسان عشيرتها.. وظلت سبباً في خوف الكثيرين من إظهار جبنهم والفرار.. ما إن يلوذ أحدهم بالفرار حتى تلحقه خود على ظهر فرسها وتصر على مغر ظهره بالأحمر..
اشتهرت خود في أواخر العشرينات من القرن الماضي..
وليشهد منتصف القرن نهاية عادة بدوية.. عربية خالصة حافظ عليها التقليد العشائري منذ أيام الجاهلية..
وخود كانت استمراراً متطوراً لهذا التقليد الذي يتعارف عليه بمسمى " بنت العطفة"..
اعتاد عرب الجاهلية توقيت حروبهم مع شروق نجمة الصبح .. أو كوكب الزهرة .. لأن ربة الحرب لديهم.. هي أنثى .. هي "العزى"
وهي ذاتها فينوس عشتار .. سيدة أزلية للحروب.. توارث البدو عادة أن تكون نجمة الصبح علامة لبدء الحرب .. تقودهم "بنت العطفة" فتاة شابة.. بالغة الحُسن، طليقة اللسان .. جريئة تنخي الرجال من حولها وتستفز هممهم .. لتضمن نصرهم عند هودجها ..
وإذا ماساءت حظوظهم أو تخاذلوا .. ستعري جسدها وتسوق ناقتها نحو العدو.. عندها على الرجال أن يكونوا رجالاً وإلا فقدوها وهزموا .. عليهم ابتكار مجدهم.. ومقايضتة بدمهم.. هكذا قدر فتاة العطفة، فتاة يختارها جمالها ونسبها .. يُفترض أن تكون ابنة عقيد حرب (2) العشيرة أو ابنة الشيخ أو أخته، وعذراء أيضاً ليصبح بذلك العار أكبر إذا ما حظي بها العدو..
فتاة تعلمت أن تتقن الترويج للنصر عبر الموت .. تتواطأ مع المنايا لأجل الحياة، ولأجل أكثر من مفردة " شرف، كرامة، عرض، نصر ... ثأر" أي عدوانية أن نكون أولا نكون .. تدفع بنت العطفة لأن تكون المذبح الذي يموت حوله الرجال..
حدث غارق بالرمزية بقدر غرقه بالدم.. تقليد هارب من أكثر طقوس العرب قدسية.. متعالي .. يفوز السجال الأزلي بين فتنتنا كعرب .. وطيشنا كعرب أيضاً ..
الجاسوس الألماني الضابط كارل الرضوان الذي عاش مع البدو وتواصل مع عاداتهم وتقاليدهم مدة تقارب الربع قرن تحدث في مذكراته كشاهد عيان عن المركب المقدس أو آلهة الحرب كما سمى "العطفة"..
يحدثنا كارل في منتصف العشرينيات من القرن الماضي عن فتاة جميلة اختيرت من بين فتيات عشيرتها لشرف الركوب في الهودج أو المركب على حد تعبيره..
"عندما انطلقت تويما ومرافقاتها إلى الجمل الذي يحمل الرمز القبلي.. وبقفزة سريعة أمسكت بحزام كتف الجمل وصعدت بخفة إلى ظهره ثم إلى المركب.. وفي الزاوية الأمامية اليسرى من الهيكل المقدس حيث يوجد مقعد وسند للقدمين.. جلست تويما كملكة الصحراء فوق رعاياها .. ثم خلعت غطاء رأسها وتساقطت ضفائرها الرائعة فوق كتفيها وأثناء ذلك سمعت أصوات الطلقات وسرعان ما انطلق الفرسان إلى الأمام وانطلقوا بكتلة واحدة نحو المركب وسط هدير حوافر وبريق البنادق وارتفع غناء الرجال الهائج عندما احتشدوا حول ملكتهم ..
ونهضت تويما ووقفت  منتضية  الخنجر وتغيرت ملامحها إلى نشوة من الهمة وفجأة وضعت يديها على خنجرها ومزقت ثوبها وعرت صدرها وانطلق لسانها في أغنية بليغة عاطفية.. وبدت تعويما كآلهة.. وتحت قيادتها الرمزية (( تدافعوا إلى الأمام .. إلى مصيرهم المجهول ))
العُرف الخاص بطقس العطفة يقول بأنه لايحق للعشيرة التي تخسر عطفتها في حرب أن يكون لها عطفة جديدة إلى في حال كسبت عطفة أخرى في معركة جديدة ، عندها يحق لها أن تفخر مرة أخرى وتعلن عن فتاة جديدة للعطفة .
وعادةً، الفارس الذي يحظى بفتاة العطفة، وذلك سيكون بعد مرحلة طويلة من سفك الدماء حولها يحق له الزواج بها أو قد يتزوجها عقيد الحرب أو شيخها .. أحياناً تُقتل فتاة العطفة إما بسبب طلق ناري طائش أو رأس رمح ما .. كان يناوش أحد أبناء عشيرتها .. أو في أحيان نادرة قد يعمد أحد أفراد العشيرة المعادية إلى قتلها ليضمن فتور همة الرجال حول العطفة .. وبذلك يتمكن العدو منهم..
ثمة حكايا تتحدث عنها العجائز في السمر ولأننا نمل من "الحكي" ونخون أمانة الاستماع .. يحدث أن نعمد إلى انتحال ملامح جداتنا مثل ساعة رملية تقلب الذاكرة .. لتقلبنا .. صفحة وراء صفحة

 

 

 

 

----------------------------------------------------------------------------------------------

1- المغرة : مسحوق طباشير لونه أحمر اعتاد البدو تلوين أقفية أغنامهم برمز يحفظ عدم اختلاطها مع قطعان أخرى.
2- عقيد الحرب : يفترض أن يكون أحد وجهاء القبيلة وأحياناً يكون الشيخ أو الأمير نفسه.. يتولى قيادة المعارك.. في وقت الحرب


 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...