أدونيس: نحو تاريخ خاص للموت العربي

01-11-2007

أدونيس: نحو تاريخ خاص للموت العربي

- 1-

أقترح على الكتّاب والمفكرين العرب أن يعملوا، كلٌّ وفقاً لتجربته واختصاصه، على كتابة تاريخ للموت العربي، وبخاصة في عصرنا الراهن. فهناك حضورٌ للموت في المجتمعات العربية، قد لا يكون له مثيلٌ في العالم. وإذا توسَّعنا قليلاً وقرأنا هذا الحضور بتجلياته المختلفة، المتنوعة والمتعددة في الفقر، والجهل، والسجن، والطغيان، والسياسة، إضافة الى تجليه – الأساس في القتل، فإننا نجد للموت في الحياة العربية حضوراً قد لا يكون له مثيلٌ في تاريخ الشعوب.

مع ذلك، وهذا هو الأمر العجيب، نحيا نحن العرب، كأنَّ الموت، على رغم حضوره الشامل، غائبٌ غياباً يكادُ أن يكون شاملاً. باستثناء حالات عابرة لا تفرضها الثقافة بل الطبيعة: حيث نراه في وجه طفل فقد أبويه، أو في عيني امرأة فقدت حبيبها أو زوجها أو أطفالها.

بل إن بعض أوساطنا الثقافية لا تتحدث عن الموت إلا بوصفه «حكاية» جميلة، و «باهرة»، غالباً. كما لو أن قتل الإنسان كمثل قطاف ثمرة، يتم بلذة ومتعة. من العراق حتى الجزائر. قتلٌ أليفٌ كالخبز، حتى أنه قلّما يثير اعتراضاً أو احتجاجاً. بل قلّما يثير استغراباً. كأنه الهواء الذي نتنشقه تلقائياً وطبيعياً، كل يوم. من الجزائر حتى العراق.


- 2 –

لكن، عندما لا يكون الموت موجوداً في ثقافة شعب، بوصفه نوعاً من «تدمير» الحياة و «تغييبها»، فإن الحياة نفسها لا تكون في هذه الثقافة، عالية وغالية، لا تكون «إنسانية» بالدلالة العميقة الخاصة لهذه الكلمة، وإنما تـكون مجـرّد عـادة طبيعية، كما هي عند بقية الكائنات. فغياب معنى الموت، بتعبـيـر آخر، في فـكر الشعب، لا يعني في التحليل الدقيق، إلا غيـابـاً لمعنى الحيـاة. ذلك أن انـعدام الشعور بما «يأخذ» الحياة، دليلٌ على انـعدام الشعور بما «يعطيها»، أو بالحياة نفسها.

مرة ثانية، أقترح على كُتّابنا ومفكّرينا أن يؤرخوا لهذا الموت العربي اليومي، لعل العرب يدركون معناه، لكي يتمكنوا، بدءاً من ذلك، من أن يبتكروا معنىً لحياتهم، ومن أن يُحبوا الحياة بوصفها «هبة» الكون، العُظمى.


3 – ذلك «التثقيف»

- 1 –

أنتمي الى جيل نشأ وتكوّن في مناخ «الحرب»:

بدءاً من الحرب العالمية الثانية، حيث أتذكر خصوصاً اعتمادنا الكامل، في غذائنا على أعشاب الأرض، وأشجارها، مروراً بالحرب «الفلسطينية» المتواصلة.

وقد تم «تثقيف» هذا الجيل، أيديولوجياً، بإعداد نفسيّ وفكري وسياسي لمجابهة هذه الحرب الأخيرة، والانتصار على العدو المغتصب.

ويمكن الآن، في ضوء النتائج، أن يُوصف ذلك «التثقيف» بأنه كان «اغتصاباً» آخر لعقولنا، أو «غزواً» آخر احتل أفكارنا وأحلامنا. فلم نعرف مناخاً للتأمل الحُر، يساعدنا على الفهم العميق لمسألة الحرية، ولمعنى العمل الإنساني في التاريخ، ولمعنى التاريخ. على العكس، عِشْنا قسراً وآلياً في ثقافة الأدلجة – ثقافة التعمية على جميع الأصعدة، وفي جميع الاتجاهات.

حقاً، يمكن العمل الفكري – السياسي أن يؤدي الى بناء عالم جديد، وتجنب مآسٍ إنسانية كبيرة. لكن، يمكنه كذلك أن يُحدث زلزالاً في جسم المجتمع، مُدمِّراً، كمثل الزلازل الطبيعية المدمرة. وتلك هي «طبيعة» العمل الفكري – السياسي العربي – حتى الآن.


4 – شوارع

تحية لشارع المتنبي في بغداد وللكتب التي احترقت فيه

- 1 –

للشوارع العربية أبجديةٌ

لا ترفع إلا بيارِقَ الورَق.

- 2 –

اختنقَتْ سماءُ الشوارع

وهي الآن تتنفَّس اصطناعياً.

مع ذلك،

لا يزال رُضابُ الغيب

يسيلُ فوقها منّاً وسلْوى.

- 3 –

للبطالة هي كذلك نقابةٌ

ينتمي إليها في الشوارع العربية

العملُ نفسه.

- 4 –

ليس في هذا الشارع إلا رياحٌ

هي نفسُها التي تَلتهمُ الفضاء.

- 5 –

شوارِعُ –

جِراحٌ في عنق الوقت.

- 6 –

الشارع الذي قال إنه تحرّر

هو نفسه قيدٌ آخر.

5 – يركع الماء خاشعاً

- 1 –

حاولتُ مرةً أن أفهم الريح،

فكادتِ العاصفة أن تجرفني.

- 2 –

لا تخافُ إلا مما يجري وراءك،

لماذا، إذاً، لا تجري إلا وراء ما تخافُ منه؟

- 3 –

أهناك مكانٌ يتّسع لجميع الرغباتِ،

غير اللغة؟

- 4 –

السماءُ تلعب النَّرد،

والأرضُ هي الخاسرة.

- 5 –

إصعدْ في الضوء لكي تقرأ الآخرين،

واهبط فيه لكي تقرأ نفسك.

- 6 –

لا يَنْكَسِرُ

إلا أمام الأشياء التي يقدر أن يكسرَها.

- 7 –

في الريح،

تمدّ الوردة يديها لكي تلتقطَ أوراقَها المتساقطة.

- 8 –

يقرأ الشاعر، كل يومٍ، صفحاتٍ عديدةً

من كتابِ الشمس،

مع ذلك، تظلّ حياتُه معتمة.

- 9 –

تُرَى، ما كان الطعامُ

الذي هيّأته حواء لآدمَ

في عشائهما الأول؟

- 10 –

تزوّجتِ الأرضُ الغيمَ،

فركعَ الماءُ خاشعاً.

- 11 –

الزمن أنتَ وهي معاً تحت لحافٍ واحد.

إذاً، علِّم جسدَك أن يظلَّ طفلاً،

لا شيخوخة إلا في الرأس.

أدونيس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...