»صوت ماريا« مونودراما لمانويل جيجي في دمشق

18-10-2008

»صوت ماريا« مونودراما لمانويل جيجي في دمشق

يبدو المخرج السوري، الأرمني الأصل، في مسرحيته الجديدة »صوت ماريا«، كما لو أنه يستعيد ذكريات النزوح الأرمني الكبير، حين يستعيد نص الكاتبة البوسنية ليديا شيرمان هوداك ليجرده من عنصري الزمان والمكان فيصبح صوت ماريا الجديد صوت المرأة في أي حرب لا على التعيين، المرأة التي سرعان ما تأكلها الحرب، وتكون أولى ضحاياها.
»صوت ماريا«، وهو مونودراما تؤديها الممثلة فدوى سليمان، يحكي على لسان الأم قصة اغتصابيْن، الأم وابنتها، كما تحكي الأم سيرة النزوح وتستعيد مشاهده الأليمة؛ مشاهد الجموع، عبور الحدود عبر خطر حقول الألغام، قصة اغتصابها وذهولها أمام الحمل في هذا العمر المتأخر، ثم سقوط الجنين تحت عبء التعب وعذاب الهرب، قصة اغتصاب الابنة وولادتها في المشفى ومن ثم موتها. ومع الوليد الذي تتركه الابنة تنشأ العقدة في المسرحية، ماذا تفعل الأم بحمل من الأعداء؟ ماذا تفعل بجسد يجمع بين روعة وضع الأمومة، ورجس من الأعداء يسكن أحشاءها، ويتحرك في كل لحظة يذكّرها بالرعب. العرض لم يكن يحتاج إلى عقدة كهذه ليستوي، إذ تكفي قصص الحرب والاغتصاب وسواها، لكن الكاتبة (البوسنية المسيحية) لا تكتفي بقصص الحرب وبشاعتها، بل تذهب إلى طرح موضوع المصالحة، والتسامح، رغم أهوال الحرب، عبر التساؤل حول مصير الطفل، ثمرة الحرب، وضحيتها الباقية، ثمرة زواج القاتل بالضحية، لكن قرار الأم، الجدة الآن، يأتي واضحاً وصريحاً في آخر العرض، حين تقرر الاحتفاظ بالطفل وتبنّيه. فهل قررت الأم أن تنسى وتمضي إلى التصالح مع ذكرى الحرب، أم أنها أبقت الطفل كشاهد؟
العرض قُدم كمونودراما، ومن الواضح أنه شُغل ممثل بالدرجة الأولى، بل إن الممثلة هنا، وقد غابت عن خشبة المسرح منذ تخرجها قبل سنوات من المعهد العالي للفنون المسرحية، جاءت اكتشافاً لمقدرات في التمثيل رفيعة المستوى، واكتشافاً لصوت تمثيلي فريد ومبشر في المشهد المسرحي السوري. تحكي الممثلة هنا كما لو أنها مريضة على سرير الطبيب النفسي، وتروح تؤدي عدة أدوار؛ ابنتها وطبيبتها، والقائد العسكري الذي تمنى لهم التيه في حقول الألغام، والقابلة التي ولّدت كل أطفال البلدة من دون تمييز ثم راحوا الآن يبصقون في وجهها.. الممثلة قدمت معادلاً بصرياً وجسدياً رائعاً، ومن الواضح أن ذاكرتها الشخصية وثقافتها شكلتا منهلاً ثراً لأدائها. تقول لـ»السفير«: »استخدمت ذاكرتي في استعادة مشاهد مؤلمة، وما أكثرها في هذا الشرق. حاولت أرشفة كثير من المشاهد بصرياً، مثلاً من مشهد محمد الدرة استعرت كيف كان الأب يلوح بيديه ويحرك أصابعه وكيف حرّك رأسه حين مات الولد. استعرت من مشاهد مجرة قانا الأولى صورة رجل حمل ثلاثة أطفال وكيف راح يتنقل بين الجثث. قرأت »أربع ساعات في شاتيلا« لجان جينيه واستعرت منها أيضاً. اشتغلت على المشهد معنى وصورة«. حكت الممثلة، وكانت ترسم طوال الوقت، بعد أن نصبت عدداً من اللوحات وزعت على الخشبة، ليست رسامة، لكنه نوع من علاج نفسي. كانت تقول نقلاً عن طبيبتها النفسية: »ارسمي ففي داخلنا صورنا وحقيقتنا«.
ومن بين أكثر الأفعال والصور التي صنعتها الممثلة تبقى في البال كومة الأحذية التي جمعتها في أول العرض من هنا وهناك، من تحت كراسي المتفرجين، كما لو كانت تجمعها بعد تفجير في الطريق. لنتذكر صور الحرب العشوائية في الشوارع، ما الذي يبقى حين تصل الكاميرا غير كومة الأحذية، لا يبقى شاهد غيرها، غير أنها مفارقة ساخرة: أن لا يبقى من جبروت الحرب سوى الأحذية.
ما قدمه مانويل جيجي مخرجاً، مع ممثلته فدوى سليمان، من إنتاج احتفالية »دمشق عاصمة الثقافة العربية«، عرض ممثل ممتاز، يستحق أن يكون علامة بين العروض المحلية الكثيرة التي غصت بها مسارح دمشق في السنوات الأخيرة.

راشد عيسى

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...