«مغامرة الفكر الأوروبي» بين رؤيتين إغريقية ويهودية - مسيحية

27-09-2015

«مغامرة الفكر الأوروبي» بين رؤيتين إغريقية ويهودية - مسيحية

يعرض كتاب «مغامرة الفكر الأوروبي» للباحثة الفرنسيّة جاكلين روسّ، الذي نقلته إلى العربية (دار كلمة - أبوظبي) لمسار الفكر الأوروبّي منذ تكوينه وحتى القرن العشرين. وإلى جانب غنى المادة التي يحتويها ووفرة المعلومات التي يقدّمها، فإن العرض الذي ظاهره سرديّ ينتظم في مقاربة تظهر التفاعل بين الطبيعة والكون من جهة وعمل الإنسان الفكريّ الدينيّ والحضاري فيها من جهة أخرى.

تقول الكاتبة في تمهيدها إن بحثها يتركز على مغامرة الفكر الأوروبي، تلك الشخصية الثقافية التي تتخطى تنوع الأمم. فمنذ وقت بعيد شكلت أوروبا، التي مزّقتها الصراعات، وحدة حضارية حيث اخترعت الأفكار الرئيسية للفكر التي تحمل دعوة عالمية. ورغم أن أوروبا لم تكن يوماً متّحدة سياسياً، إلا أن إطارها الروحي يضفي عليها التماسك المنشود. إذ سمحت اللغة المشتركة، أي اللاتينية، وهي أول عنصر جامع خلال قرون طويلة، كما سمح العقل الفلسفي والعلمي، وكذلك الانطلاقة الفنية والثقافية المنتشرة في كل القارة، من الفن الباروكي إلى الرومنطيقية، ومن الإنسانوية في عصر النهضة إلى عصر الأنوار، وحتى إلى العقل التواصلي في عصرنا، كل ذلك سمح بتخطي بعض الانقسامات.

وتعتبر روس أن أوروبا قبل أن تكون مشروعاً سياسياً، هي فكرة ولدت من مزيج صعب ساهم في صياغة جمالها، وهي فكرة فلسفية، فالعالم الفكري العالمي وأوروبا ينبثقان من حركة فريدة واحدة ومن فعل روحي واحد.

الكتاب وصف تاريخ الأفكار الأوروبية، وهو تاريخ يبدأ مع «الكتاب المقدس» (العهدان القديم والجديد) والإغريق، ليصبح اليوم اتحاداً سياسياً واقتصادياً وفقاً لتنبؤات الفيلسوف نيتشه.

واختارت الكاتبة منظاراً متميّزاً لفهم أرضية هذا الفكر المعقدة التركيب، والتي هي ثمرة نضال بين رؤيتين للعالم، واحدة إغريقية وأخرى يهودية مسيحية، رؤيتين في مواجهة مستمرة منذ بدايات الإمبراطورية الرومانية ولا تنفكان تتجابهان. فالثقافة الأوروبية هي وليدة هذا الصراع الذي دام ألفي سنة وأنتج وعياً يجمع بين الفرادة والخصوصية، صراع لم ينتهِ بعد، فهو لا يزال يلاحق أوروبا الثقافة حتى اليوم. إذ تعتبر الكاتبة أن الأوروبيين هم ورثة رؤيتين للكون، كلتاهما ولدتا ما بين الفرات والنيل، منذ آلاف السنين.

فالفكر الأصلي للشرق الأوسط يرى في الخواء المبدأ الأول المؤسس الذي ينبثق منه كل شيء. فالسومريون والمصريون نحتوا مفهوم محيط أولي، وهو عبارة عن فوضى سائلة، من جوفها انبعث تلقائياً مبدأ نظام - غالباً في صورة إله - ظهر من خلالها العالم، والآلهة، والبشر الذين خلقوا الواحد تلو الآخر. عندها شكلت الطبيعة الواقع الوحيد، وقرأ الإنسان ذاته فيها، وأصبح ملكاً لها. العالم، والآلهة، والبشر يشتركون في القوانين نفسها ويخضعون لها، وهي قوانين الطبيعة. هكذا تتلخص الرؤية الأولى للعالم.

أما الرؤية الثانية فجاءت من العبرانيين الذين اتبعوا مخططاً مختلفاً تماماً، فاعتبروا أن قوة متعالية هي الله، موجودة منذ الأزل، وأن الله خلق الكون من العدم، وخلق الإنسان على صورة الإلهي، هذا الإنسان الذي أراد أن يتشبه بالله. وبقي محور العالم الذي أعطي له وكان عليه أن يحوّله بعمله. فالإنسان رأى أن الله خصّه بحرية أصيلة وأوكل إليه مشروعاً أخلاقياً وهو أن يسيطر على الطبيعة ويسيّرها وفق مقاصد الله والإنسان.

الرؤية الأولى تغتني من اليونانيين القدماء بأفكار ما زالت قوتها تجتذب كل العالم المعاصر. أما الرؤية الثانية فتغتني من الثورة المسيحية.

إذن ستتشكل المواجهة بين هاتين النظرتين، والتي تكوّن تاريخ الأفكار في الغرب على مدى العصور، مركّباً متفجراً يصحبه شعور بالتأزم الدائم، لن ينفك الكتاب والمفكرون والفلاسفة يعبّرون عنه.

ورثت الإمبراطورية الرومانية الفكر اليوناني، ثم سيطرت المسيحية بقدراتها البناءة والديناميكية على الرؤية الطبيعية للعالم التي عبّر عنها اليونانيون القدماء، من دون أن تطمسها كلياً. فحتى بولس الرسول يعتبر البشرى الصالحة إتماماً للفكر الهليني، لكنه بذلك يخفي التعارضات بين المسيحية والوثنية القائلة بالمذهب الطبيعي. وفي نهاية الإمبراطورية الرومانية، أصبحت المسيحية الدين الرسمي، وترسّخ مشروعها بواسطة الدعوة التبشيرية والقوّة والعنف.

وقد مثّلت الأعوام الألف للقرون الوسطى إلى حد ما انتصاراً للرؤية المتعالية للعالم وفرضت السلطة البابوية نفسها على الملوك والأباطرة. وفي هذه الأثناء، وبفضل اللغة اللاتينية المستعملة من قبل رجال الدين، الإكليروس، وُلدت أوروبا الفكر، القادرة وحدها على أن تجمع، خلال قرون عديدة، شعوب الغرب التي تحاربت زمناً طويلاً. لكن المذهب الطبيعي الذي يمثل الرؤية الثانية ما لبث أن بُعث من جديد من رماده، وبخاصة انطلاقاً من المخطوطات اليونانية التي كانت الحضارة الإسلامية قد حفظتها ونشرتها.

لقد عادت الحرب لتظهر مجدداً عبر صراع تتداخل فيه الأفكار المتأتية من الرؤيتين بطريقة تؤدي إلى معركة مبهمة يصعب فيها التمييز بين المتخاصمين، إذ تضمنت المسيحية المفاهيم عينها التي حاربتها، والعكس صحيح. ففي القرنين الثاني عشر والثالث عشر، حصلت أولى المواجهات رافقها تداخل ما بين الطبيعة واللوغوس، حيث أعاد القديس توما زرع بذور المذهب الطبيعي اليوناني داخل النظرة المسيحية للعالم. فهو اعتمد فكر أرسطو، لكن ليس من دون فضيحة وعناء، إذ لم يُرد له الاعتبار عقائدياً في شكل رسمي إلا في عام 1325، بعد سنتين من تطويبه قديساً. وفي القرن السادس عشر اعتمدت الكنيسة المذهب التومويّ كعقيدة رسمية.

من جهة أخرى، ظهر المذهب الإنسانوي ابتداء من نهاية القرون الوسطى، واستعاد في عصر النهضة امتلاك ليس فقط الآداب اليونانية واللاتينية بل أيضاً بعض الأفكار والصور الهلّينية. ففي القرن السابع عشر قام العقل الفاتح، ديكارت، بغزو العالم، لأن غائية العلم هي عملية، وهو يجعلنا بمثابة أسياد الطبيعة ومالكيها.

لكن تلامذة ديكارت ذهبوا أبعد من معلمهم، فهو كان يظن أن فلسفته قابلة للتوافق مع معطيات الوحي الإلهي، أما أتباعه فراحوا ينتقدون المعطيات القديمة ويتهجمون على مبدأ السلطة والعقائد المسيحية.

في القرن الثامن عشر، مع عصر الأنوار، هاجم المذهب الطبيعي المسيحية، وغدت التجربة محور المعرفة ومنبع الحقيقة، وظهرت الطبيعة والإنسان كأساس المعرفة والفضيلة. فقد قاد العقل حملة ضد خرافات الفكر ولم يعد يعتبر أي شيء مقدساً، وأصبح الإنسان مقتنعاً أكثر فأكثر بأنه بواسطة قواه الذاتيه، سيسيطر على الطبيعة، «الموجودة وحدها»، والتي أفرغت تدريجاً من كل وجود متعالٍ. وأصبحت الطبيعة والعقل مصدر أسس الأخلاق والحق والدولة.

تخلّصت الثقافة الأوروبية من الحقائق الدينية التجاوزية فتعلمنت واتخذت من الطبيعة أساساً لها، إنها بالطبع إرث يوناني، لكنها تندرج في مساحة هندسية لا متناهية ولم تعد - كما عند أرسطو - غائية ونوعية.

القرن التاسع عشر حمل رؤية العالم الطبيعية إلى ذروتها، فهو القرن الذي ينتصر فيه التاريخ، والإنسانوية، والعقل والعلم. هكذا تبدو الفلسفة الهيغلية التي تعتبر أن الله هو نتيجة وغاية، وليس قاضياً يتعالى على التاريخ والكون. في نهاية القرن التاسع عشر، يحذف نيتشه كل ذكر للعالم الآخر والإلهي. بإعلان نيتشه موت الله، يعيد النظر بكل التصانيف والمعايير المنطقية الأوروبية، فهو يمثّل انقطاعاً في تاريخ الفكر، تنطفىء معها القيم ومعها أيضاً الله المحبة، إله المسيحيين. وفي نهاية القرن التاسع عشر، حين انتصرت الداروينية التحوّلية، عاد الإنسان ابن الطبيعة وبدا أن المذهب الطبيعي عند اليونان قد انتصر.

لكن المسيرة العقلانية اليونانية لم تنتصر بسهولة، ففي كل قرن، كانت الرؤية الدينية المتعالية تجاهد بقوة لتحافظ على الله، الذي هو مبدأ المبادئ، كقاعدة للكون. فمنذ البدء، ناضلت الكنيسة ضد اللوغوس والعقل، إذ أرادت أن ينتصر الخلاص وكلمة الله. على سبيل المثال، معارضة الكنيسة الطويلة الأمد لإدخال أرسطو إلى جامعات القرون الوسطى، إلى حرق جيوردانو برونو عام 1600 لأنه قال بالمذهب الطبيعي وأشار إلى لا نهائية الكون، وكذلك الحكم على غاليله.

وخلال العصور اللاحقة قامت حركات «محافظة» متنوعة جداً، سياسية، جمالية، فلسفية، ودينية بمحاربة عقلانية منتصرة أكثر فأكثر، برزت في ميادين الحقوق، والديموقراطية والعلم. على سبيل المثال، الانفجار الباروكي في القرن السابع عشر، وهو طراز خاص بفن العمارة اعتمده اليسوعيون، وكذلك الرومنطيقية، وغيرها، كانت ردود فعل من المؤسسات الكنسية وأتباعها على الرؤية الطبيعية العلمانية. فالرومنطيقية تشير إلى إعادة إحياء التراث اليهودي - المسيحي، وأحد أهم شخصياتها شاتوبريان، وقد مثّلت يقظة الفكر الديني وإستراتيجيته الدفاعية ضد اجتياح العقل وتراجع قدرات الرؤية الدينية التبشيرية.

ترى الكاتبة أن الصعوبات التي وقفت حائلة دون انتصار أفكار العقل والطبيعة لم تأتِ من مقاومة الرؤيا المتعالية بقدر ما أتت من تأثيرات ونتائج فعل العقلانية ذاتها.

اشتدّت أزمة الوعي الغربي التي بدأت خلال النصف الأول من القرن العشرين اعتباراً من عام 1960. عرفت أوروبا منذ مطلع القرن حتى فجر الألفية الثالثة انقلابات مهمة. لقد فقد المجتمع المعاصر معالمه الأخلاقية والأيديولوجية والثقافية، وهو في صدد البحث عن حضارة جديدة.

هيثم مزاحم

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...